07 أغسطس 2011

نــُـــتــَـــف 3 (مفاخر العرب - ج 1)

هذه القصة ذكرها الشيخ رفاعة الطهطاوي لكنه لم يذكر مصدرها، وعلى أية حال، فقصة اليوم

من كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" للشيخ رفاعة رافع الطهطاوي رحمه الله، ويقول:

وأما الحرية التي تتطلبها الإفرنج دائما فكانت أيضا من طباع العرب في قديم الزمان، كما تنطق به المفاخرة التي وقعت بين "النعمان بن المنذر" ملك العرب، و"كسرى" ملك الفرس.

وصورتها : أنه قدم النعمان على كسرى، وكان عنده وفود الروم والهند والصين والعجم والترك وغيرهم، فذكروا من ملوكهم وبلادهم وعماراتهم وحصونهم، فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم، ولم يستثن فارسا ولا غيرها. فقال كسرى: وقد أخذته الغيرة، يا نعمان، لقد فكرت في العرب وفي غيرهم فوجدت من الأمم ونظرت في حال من يقدم علي من الوفود، فوجدت الروم لها حظ في اجتماع ألفتها، وعظيم سلطانها وكثرة مدائنها، ووثيق دينها.

وكذلك الصين عجيبة في اجتماعها، وكثرة صنائع أيديها، وهمتها في الحروب وصنعة الحديد، وأن لها ملكا يجمعها.
وكذلك الترك مع ما هم عليه من سوء الحال في المعاش، وقلة الريف والثمار والحصون، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، فإن لهم بعد ذلك ملوكا تضم قاصيها، وتدبر أمورهم.

ولم أر للعرب شيئا من ذلك من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حرمة ولا قوة، لا عقد، ولا حكمة، مع ما يدل على تدانيها وذلها، وضعف همتها، بحالهم التي هم بها مع الوحوش النافرة، والطيور الحائرة يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضا من الحاجة، قد حرموا من مطاعم الدنيا ومشاربها وملابسها ولهوها ولذاتها، وأعظم طعام ظفروا به لحوم الإبل التي يعافها كثير من الطيور والسباع، لثقلها، وسوء طعمها، وخوف دائها، وإن قرى أحد ضيفا اعتدها مكرمة، وإن أطعم لقمة عدها غنيمة، تنطق بذاك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما عدا هذه التنوخية التي أسس جدي اجتماعها، وشد مملكتها ومنعها من عدوها، ليجري له ذلك إلى يومنا هذا، فإن لها مع ذلك آثارا وحصونا وأموالا تشبه أموال بعض الناس. لكني أراكم لا تسكتون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخرون، وتريدون أن تنزلوا فوق مراتب الناس.

فقال النعمان: أصلح الله الملك، صدقت إن هذه الأمة تسمو بفضلها، وبعظم خطبها، وعلو درجتها، إلا أن عندي جوابا في كل ما نطق به الملك من غير رده عليه، ولا تكذيب له! فإن أمنتني من الغضب مما أتكلم به فعلت.

قال كسرى: (تكلم) وأنت آمن، فقال النعمان: أما أمتك فلا تنازع في الفضل لموضعها التي هي به من عقولها وأخلاقها، وبسطة محلها، وبحبوحة عزها، وما كرمها الله تعالى به من ولايتك وولاية آبائك وأجدادك، وأما الأمم التي ذكرت فما من أمة إلا فضلتها العرب بفضلها.

قال كسرى: لماذا؟ قال النعمان: بعزها ومنعتها، وحسن وجوهها وذمتها وبأسها ورياستها وسخائها وحكمة ألسنتها، وشدة عقولها ووفائها.

فأما عزها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك وأجدادك الذين فتحوا البلاد، ووطئوا العباد، وأقاموا الملك، وقادوا الجيوش، ولم يطمع فيها طامع، ولم يزالوا عندهم محترمين، ولا نال أحدا منهم نائل، بل حصونهم ظهور خيولهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء وإلى جانبهم السيوف، وعدتهم السقف، إذ غيرها من الأمم عزها بالحجارة والطين والجزائر والبحور والقلاع والحصون.

وأما حُسن وجودها وألوانها، فقد يعرف بذلك فضلهم على الهند المحترقة، والصين المتجشمة، والترك المشوهة والروم المقترة الوجوه.

وأما أنسابها وأحسابها: فليس أمة من الأمم إلا وقد جهل آباؤها وأصولها وكثير من أولها وآخرها، حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه فلا ينسب، ولا يعرفه، وليس من العرب إلا ويسمي آباءه أباً فأباً أحاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا بذلك أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينسب إلى غير نسبه ولا يدعى إلى غير أبيه.

وأما شجاعتها وسخاؤها: فإن أدناهم رجلا يكون عنده البكرة والناب عليها بلغته وحمولته وشبعه وريه، فيطرقه الطارق الذي يغتذي بالفلذة، ويجتزئ بالشربة، فيعقرها له، ويرضى أن يخرج له عن دنياه كلها فيما يكتسبه من حسن الأحدوثة وطيب الذكر والثناء.



وغدا نكمل الجزء الثاني من حوار ملك العرب وملك الفرس

ليست هناك تعليقات: