27 أغسطس 2011

نــُــتــَــف 7 والأخيرة (شعب مثقف في أمسية كافكا)

هذه القصة ذكرها إبراهيم وطفي مترجم الآثار الكاملة لفرانز كافكا مع تفسيراتها. وهو موقف تعرض له أثناء ترجمته للآثار .
فقصة اليوم

من كتاب "الآثار الكاملة لفرانز كافكا مع تفسيراتها ج1 - الأسرة"، ويقول وطفي:
في عام 1914 تلا كافكا قصة الانمساخ لدى صديقه ماكس برود. وعن ذلك كتب في يومياته: سهرة جميلة عند ماكس. قرأت قصتي بسرعة جنونية.
وفي تموز 1924، بعد وفاة كافكا بشهر، كتب ماكس برود: "من أتيح له أن يستمع إلى كافكا وهو يتلو من آثاره، في حلقة صغيرة، بحماس يأخذ النفس، وإيقاع لن يبلغ مثل حيويته قط، كان يحس بشكل مباشر أيضا رغبة الإبداع الحقيقية الجامحة والولع الذي كان يقف وراء هذه الآثار".


بتاريخ 9 / 1 / 1995 حضرتُ أمسية أدبية قام أثناءها ممثل مسرحي بقراءة قصة الانمساخ. وكان ذلك في مسرح بلدة بادغودسبرغ التي يبلغ عدد سكانها نحو سبعين ألف نسمة (إداريا هي جزء من مدينة بون).
قبل أيام قليلة من هذه الأمسية كانت صحيفة محلية صغيرة توزع في البلدة وحدها قد نشرت في باب "الأمسيات الثقافية" إعلانا صغيرا جدا مؤلفا من الكلمات التالية: " الاثنين 9 كانون الثاني، الساعة 20، ردهة مسرح الجيب، روبرت غالينوفسكي يقرأ الانمساخ لفرانز كافكا (الدخول مجانا)".

في طريقي إلى المسرح تساءلت وفكرت : "كتبت قصة الانمساخ في زمان ومكان آخرين، في دولة أخرى، في مجتمع آخر، في عصر آخر، في عام 1912 في مدينة براغ التابعة لامبراطورية النمسا والمجر. ما علاقة هذه القصة بالناس في بلدة بادغودسبرغ في ألمانيا في عام 1995؟ من منهم قرأ هذه القصة؟ ولماذا قرأها؟ من يترك دفء منزله وشاشة التلفزيون ويتجشم عناء السفر في ليلة شتاء ماطرة من أجل أن يسمع أحدهم يتلو هذه القصة على مسامعه؟ مجرد تلاوة وسماع فقط، دون مقدمات، دون شروحات، دون نقاش؟ (معروف أن مثل هذه الأمسية تقتصر على التلاوة). هل أكون المستمع الوحيد؟"

وصلتُ باكرا قليلا، فوجدت نحو عشرين شخصا في القاعة. أخذت مكانا في الصف الأول على آخر كرسي. وعندما دقت الساعة الثامنة كان عدد الحاضرين قد بلغ ما يقرب المائتين، نساء ورجالا، أفرادا وأزواجا. تتراوح أعمارهم بين العشرين والستين عاما.

وعندما بلغت الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة دخل ممثل شاب يرتدي ملابس يومية بسيطة، إلى خشبة القاعة، حيث كان قد وُضع طاولة بسيطة عليها قنينة ماء وكأس ومصباح مكتب. نزع الممثل معطفه ووضعه على الكرسي، وتناول من جيبه نسخة من كتاب الانمساخ، ووضعها على الطاولة. توجه إلى الحضور وقال : "أنا روبرت غالينوفسكي سأقرأ عليكم قصة الانمساخ لكافكا". وجلس، وبدأ التلاوة.

كانت تلاوة الصفحة الأولى تلاوة عادية لا تنبئ عن شيء غير عادي. لكن سرعان ما أصبحت التلاوة عملية تمثيل لا تختلف عن تمثيل دور على خشبة المسرح. صحيح أن الممثل ظل جالسا طوال الوقت، لكنه استخدم وسائله الأخرى في التمثيل: حركة اليدين، تعابير الوجه، والوصف بشكل خاص.
وكنت قد زحزحت الكرسي الذي أجلس عليه بشكل أستطيع معه أن أدير رأسي إلى الوراء دون عناء ودون لفت انتباه كبير. ومرات عديدة رحت أتجول بناظري في وجوه المستمعين، فلم ألاحظ سوى استغراقهم في الاستماع وكأنهم يحضرون مسرحية حقيقية.

وعندما انتهى الممثل من تلاوة القصة بكاملها دون أن يتجاوز كلمة واحدة، وقال: "هذا هو الحال"، ونهض واقفا، فاندلع تصفيق حاد طويل كما يجري بعد انتهاء مسرحية ناجحة.
وكان الناس متأثرين غاية التأثر. نظرت إلى ساعتي فكانت قد بلغت التاسعة تماما. أي أن قصة الانمساخ تُليَتْ بكاملها خلال خمس وخمسين دقيقة.
لا أظن أن أحدا من الحاضرين جاء إلى هذه الأمسية دون أن يكون قد قرأ القصة سابقا. لم يأت أحد إلا لأن القصة أثرت في نفسه ذات مرة، فحضر الآن كي يزداد إعجابه بها.


بعد أن تلقى الممثل تصفيق الجمهور بعدة انحناءات، تناول معطفه، ونزل عن الخشبة، وخرج. لحقت به أمام القاعة وهو يرتدي معطفه. قلت له: "شكرا. كانت تلاوة رائعة. لقد استمعت إليك لأنني أقوم حاليا بترجمة الانمساخ. سرّ وسأل: "إلى أي لغة؟" قلت "إلى العربية". فظننت أنني لحظت في عينيه نظرة اندهاش. اتسعت حدقتا عينيه وقال: "الموضوع واحد في العالم كله".

أتمنى أن تكون هذه النــُــتــَــف حازت القبول...
وهذا هو الحال .. وكل عام وأنتم بألف خير

22 أغسطس 2011

نــُــتــَــف 6 (القبور التسعة في منطقة الظهر الكويتية - ج 2 والأخير)

نستكمل اليوم ما ذكره السير ديكسون في كتابه "الكويت وجاراتها" في شأن قصة القبور التسعة، إذ وصل إلى حيث قرر الأب مضرب تزويج ابنه شريب من ابنة عمه فغضب شريب و...

وأحس بإهانة شديدة وأقسم أنه لن يتزوج مهما طال به الأجل إلا من أحبها، رخيصة، ولكن المتاعب بدأت تتوالى أمامه. وبالرغم من أن العبادة – وهم أيضا من بني مالك- كانوا جيرانا لا يحملون لغيرهم إلا الود، وعلى استعداد لتزويج بناتهم من ال[....]، إلا أنه، عمليا، لم يحدث قط أن سُمح لرجل من ال[.....] أن يتزوج فتاة من العبادة.
وعندما توجه عبدالله ال[.....]، وهو من كبار شيوخ أسرته، إلى مدينة الكويت بعد بضعة أيام وبصحبته مجموعة من النساء جئن لشراء احتياجاتهن، أعد فزع القهوة في خيمته وجمع أغلب أعضاء أسرته لمناقشة الموقف. ونظرا لحالة عدم الاستقرار السائدة في ذلك الوقت، جلس الرجال حول النار وكل منهم يضع غدارته المشحونة بالطلقات فوق ركبته، بينما خزانات الذخيرة تلتف حول خصره، وكانت رخيصة أيضا بحبة تلك المجموعة من النساء، واللاتي حاولن مرارا إقناعها باستحالة زواجها من شريب.

وبعد تناول القهوة، بدأ الجدل، وشرعت الدماء تغلي في عروق شريب الذي رفض الانصياع لأي منطق. وفجأة، وفي سرعة البرق، ودون التوقف لحظة للتفكير في العواقب، أطلق أحد الشباب نار غدارته من مسافة قريبة جدا على شريب فأرداه قتيلا في الحال. وفي نفس اللحظة لقي القاتل مصرعه هو الآخر، لتتحول الخيمة كلها إلى جمع أعماهم الغضب فراحوا يتبادلون إطلاق الرصاص في كل اتجاه. وبينما رخيصة تهرول لتغادر الخيمة وصوتها يعلو بالصراخ، أصابتها طلقة في ظهرها فلقيت مصرعها، وولت بقية النساء الأدبار فزعات، واتجهن إلى الصحراء لينخرطن في العويل والبكاء، وهن يمزقن ملابسهن ويضربن صدورهن بقبضات الأيدي.

ولم يفلت إلا أربعة أشخاص، فزع، والشاب عبدالعزيز، وشقيقاه شديّد ومزعل، وإن كانوا جميعا أصيبوا بجراح، كانت جثث القتلى تتناثر من حولهم، واستوعب فزع حقيقة الموقف قبل غيره، فأمر عبدالعزيز، وكانت إصابته أقل خطورة من الآخرين، بأن يتوجه إلى المدينة ليحضر عبدالله على وجه السرعة، وجرى عبدالعزيز إلى راحلته فحل قيدها الحديدي وألقى به على الأرض، وامتطاها ليشق طريقه بأقصى ما يستطيع من سرعة نحو المدينة، على بعد ستة ثلاثين ميلا.

وعندما بلغ المدينة وجد عبدالله والنساء مجتمعات في ساحة السوق (الصفاة)، وما زال الكثيرون يذكرون ذلك اليوم وما شهده من أحداث عصيبة عندما وصل الفرسان الذين أثخنتهم الجراح واستبد بهم الإعياء، يحملون الأنباء التي تقشعر لها الأبدان.

وعلى الفور، قفز عبدالله – وهو المعروف دائما بالهدوء وضبط النفس- فامتطى راحلته وانطلق بأقصى ما يستطيع من سرعة، أما النساء، وكن حوالي عشرا، فخيم عليهن حزن عميق وانخرطن يُوَلولن في نحيب وعويل ويمزقن شعورهن وثيابهن، ويدرن حول أنفسهن جريا في الساحة وكأنما أصابهن مس من جنون، وانتشرت الأنباء انتشار النار في الهشيم لتصل إلى كل ركن من أركان المدينة، فهب الناس واندفعوا ليحتشدوا من حولهن، وأقبلت عليهن صديقاتهن مواسيات، وتنافست الأيدي لمساعدتهن في تحميل حميرهن، وبعد الظهر، غادرن المدينة وهن يجررن سيقانهم جرا بعد أن كاد الحزن يشل حركتها، ومن ورائهن أغنامهن وحميرهن في طريق طويل كان عليهن أن يقطعنه ليلا نحو موطنهن. وكم كانت مسيرة حزينة تتفتت لها الضلوع. وكان عبدالعزيز في صحبتهن.

وقبل مغيب الشمس، حفرت تسعة قبور جنبا إلى جنب، ووريت بها أجداث الرجال الثمانية والفتاة. وفي هذه المذبحة فقد فزع عمه مضرب وابن عمه شريب، وفقد عبدالله شقيقه جاسم ومطر وابن أخته كريم مطشر، بينما فقد عبدالعزيز شقيقه داوود، وفقد الصغير فيصل – ذو العينين الزرقاوين- أباه حسن.

وعندما ساد الظلام، كانت المجموعة الصغيرة التي أفلتت من الموت تصطف لأداء صلاة العشاء، فحمدوا الله رحمته رغم كل ما يعتصر قلوبهم من حزن وألم، واختتموا صلاتهم مرددين: "الحمد لله. الله يعطي، والله يأخذ".

حصلت على تفاصيل هذه القصة بشق الأنفس من فزع وغيره، لأن ال[....] لا يحبون الحديث عنها. وأنا لا أعرف على وجه التحديد من الذي بدأ بإطلاق الرصاص، ولا أخبرني ال[....] بذلك، وما زال المنتفق عازفين عن ترديد هذه القصة أو الخوض فيها حتى اليوم.




لهذا السبب لم أذكر اسم العائلة
ولأتأكد سألت أحد الأصدقاء أن يسأل زوجته -وهي من هذه العائلة- عن هذه القصة، فكانت إجابتها أنها لم تسمع بها...

21 أغسطس 2011

نــُــتــَــف 6 (القبور التسعة في منطقة الظهر الكويتية - ج1)

أنقل هذه القصة بتصرف، أولا: لن أذكر اسم القبيلة/العائلة، بل أكتفي بالأسماء الأولى أو الإشارة إلى جذور هذه القبيلة فحسب. ثانيا : حذفت بعض الفقرات اختصارا، رغم الوصف الجميل للصحراء الكويتية وساكنيها في ذلك الزمان، قبل 85 سنة...

قصة اليوم
من كتاب "الكويت وجاراتها" للسير هارولد ديكسون، ويقول:

وهذه قصة أخرى من قصص التعصب القبلي.

في ختام يوم طويل أمضيناه في رحلة صيد على امتداد سلسلة تلال الظهر بالكويت – في عام 1931، رجعنا، أنا وزوجتي، إلى مخيمنا عند أول الليل وقد أخذ منا الإرهاق كل مأخذ. كنت قد أمرت في الصباح بضرب خيمتنا السوداء وخيام مرافقنا، سالم المزين وأسرته، وإعدادها لنا في مكان اخترته كيفما اتفق في أرض فضاء عند منحدر لطيف في الطرف الغربي لسلسلة من التلال، في مواجهة تلال برقان. وفي هذه الليلة رأيت مصادفة، وعلى بعد حوالي مائة ياردة من خيمتنا، صفا من الآكام المنخفضة تضم تسعة قبور متجاورة عند سفح تل صغير. وعندما سألت، علمت بما حدث في هذا الموقع في شهر فبراير 1926.

أثناء الصيف وأوائل الخريف من كل عام، كان آل[...] - وهم فخذ صغير من بطن بني مالك- يعيشون على ضفة ترعة الغريفية بالقرب من سوق الشيوخ، أما في فصل الشتاء والربيع فكانوا يهاجرون جنوبا إلى الكويت مع غيرهم من قبائل الرعاة من المنتفق.
(......)
وكان كبير ال[....] هو المدعو فزع، وهو من أقرب أصدقائنا وكنت قد تعرفت به أيام عملي في سوق الشيوخ. وكان هو وأحد أقاربه – عبدالعزيز السمير (المعروف بالمسمار) هما اللذان أخبراني بقصة المذبحة التي تعرضت لها هذه الأسرة.

(قالا لي) : إنه في عام 1925 هطلت الأمطار مبكرة في البادية فاستبشر الجميع بربيع يقيم فيه الرفاء، ولكن الأوضاع لم تكن مستقرة، وكان المغيرون من الإخوان لا زالوا يقومون بمغامراتهم بالقرب من مدينة الكويت نفسها ويستولون على الأغنام والجمال، ولكن مهما كانت الأوضاع، كان من المحال منع رحلة الشمال التي درج عليها القوم كل عام منذ القدم؛ فقطعان الماشية وإناث الخيل لابد لها أن ترعى أعشاب وأزهار الصحراء التي تنمو في فصل الربيع، وبالإضافة إلى ذلك، فمع بداية هطول الأمطار في أراضي المنتفق، تبدأ حراثة الأرض وزراعة المحاصيل الجديدة، مما يتطلب نقل الأغنام والحمير بعيدا عن المساحات المخصصة للزراعة.

(...) في شهر فبراير 1926، ضرب آل[....] خيامهم على امتداد الجانب الغربي من سلسلة تلال الظهر المطلة على آبار عريفجان، على بعد حوالي الثمانية أميال جنوب شرق تلال برقان، ووفقا لعادة بدو العراق جميعا، لم يضربوا خيامهم في صفوف، كما يفعل بدو العربية السعودية، ولكنهم وزعوها متناثرة، فرادى أو كل خيمتين معا، حتى يسهل على أغنامهم الوصول إليها أثناء تجوالها، ولكن بحيث لا تبعد المسافة بين كل خيمة وأخرى عن القدر الذي يسمح بوصول صوت النذير عندما يطلق رصاصة في الهواء.

وقبائل الرعاة من المنتفق لا يملكون جمالا، ولذلك كانت خيامهم، التي لا وسيلة لديهم لنقلها إلا على ظهور الحمير الهزيلة، صغيرة الحجم قليلة الارتفاع.
(...)
وكان الشباب من ال[....]، شأنهم شأن الشباب من سائر قبائل المنتفق، يتميزون بالوسامة والصحة وقوة البنيان، وكان لأغلبهم فرس يركبها كل منهم وهو في الطريق إلى الكويت، وكثيرا ما كنت تراهم في أسواق المدينة يعقدون صفقاتهم ويشترون احتياجاتهم تاركين الفرس لتأكل في إحدى الحظائر المجاورة.

وكان شريب بن مضرب [....] أحد هؤلاء الشباب، وهو أكبر أبناء عم فزع، وكانت تجمعه منذ عدة أشهر قصة حب لا يعرف أحد عنها شيئا مع فتاة تدعى رخيصة، من قبيلة العبادة الصغيرة التي تعيش على الزراعة. ولم ينتشر نبأ هذه القصة إلا عندما أبلغ الأب، مضرب [....]، ابنه أنه سوف يعقد قرانه، عند العودة إلى مواطن المنتفق في الصيف، على ابنة عمه.
وغضب شريب وأحس بإهانة شديدة وأقسم أنه ....


ونكمل غدا الجزء الثاني من قصة القبور التسعة في منطقة الظهر الكويتية

17 أغسطس 2011

نـُــتـَــف 5 (الولادةُ المعجزةُ لجامع الأسفار المقدسة الحكيم فياسا)

قصة اليوم
من كتاب "المهابهاراتا" ملحمة الهند الكبرى، وتقول القصة
جلس فياسا متربعا، ثم شحذ طاقة ذهنه ما وسعه، حتى استحضر غانيشا ذا وجه الفيل، مفرج الكروب، ومزيل العقبات، ومحقق الأماني والرغبات. بادره فياسا قائلا: "أعرني سمعك! فلسوف أملي عليك ملحمة تفتق عنها الخيال، ورويت فيها قصة أمة، البهاراتا!".

رد غانيشا: "وإني مجيب طلبك، شرط ألا تتوقف عن الإملاء حتى لا ينقطع سيلان القلم بين أصابعي!".
ورد الحكيم فياسا بدوره: "وهذا ما سيكون، طالما كنت تستوعب ما أمليه عليك".

تهيأ غانيشا للكتابة فجلس متربعا على الأرض، ونطق بكلمة "أوم"، ثم أخذ القلم، وشرع يدون ما كان يلقيه فياسا. فسمع منه أعمق الأقوال بأسلس عبارة، وأحسن بيان، بعبارات متدفقة لا تنقطع إلا حين يمسك عن التدوين ليلتقط معنى غاب عنه، أو ليتدبر جملة أشكل عليه أمرها، أو مقصدا فاته. فكان فياسا يستريح عندئذ ليزيد روايته متانة، وإحكاما. وما زال هذا دأبه، تتدفق الرواية. على لسانه تدفق النهر العارم، حتى استهلك غانيشا قلمه، فانتزع أحد نابيه ليلحق بالراوي.

قال فياسا: كان الحكيم الزاهد برشارا يطوف البلاد قاصدا العتبات المقدسة، وبلغ ترحاله بقعة أخذت تتسرب عندها إلى أنفه رائحة نفاذة، فمضى يستقصي مصدرها، وما زال يسعى في أثر هذه الرائحة، حتى إذا صارت في أشد زخمها، صادف ابنة كبير الصيادين في ذلك الصقع النائي، وعلم منها أن اسمها ستيافاتي ووجد الفتاة تصلح قارب أبيها. فاقترب منها حتى تأكد أنها مصدر هذا العبق من الرائحة. كانت الفتاة مليحة القسمات، جميلة الوجه، ذات قوام فتان، فاضطرمت الرغبة في أعماقه واستبدت به. فراودها عن نفسها: "يا ابنة السحر، لقد فتنت بك، وطغى علي الوجد، أفلا تقبلين بي لأودعك حبي وشوقي".

هلعت الفتاة إذ وجدت هذا الشيخ المهيب يبرز أمامها، كأنما ولج إليها من أبواب الغيب ويخاطبها بما لا تقوى العذارى على سماعه، فقاطعته بصوت متحشرج به أثر من الذعر، قائلة: كيف يكون ذلك، أيها الشيخ، وما زلت عذراء في طاعة أبي، ولم يمسسني بشر، ولم أعرف المعصية من قبل!". رد الشيخ، وكأن كلماتها وقعت على أذن صماء: "هيا، يا فتاة! فليس في هذا زلل، أو معصية معي، وأنا الشيخ الزاهد، هيا يا فتاة، فلقاؤنا لقاء الأقدار!".

لم تزد كلمات الشيخ الفتاة إلا خوفا واضطرابا، وكأنما هي خطر يهدد هذه الحياة الهانئة الوادعة التي تعيش، وأخذت العبارات تتدفق منها مفصحة عن الوجل في أعماقها: "يا ويلي! أي مصير ينتظرني بعدما يتم لك مبتغاك؟ وماذا سيكون حالي بعد هذا وأنا في بيت والدي؟ يا لفضيحتي! ويا لعاري بعد هذا اليوم!". قال الشيخ مقاطعا: "هيا، أقدمي، ولا تترددي أمام قدرك! هيا، يا فتاة، فلن يمسسك سوء، ولن ينالك ضير!".

تضرجت وجنتاها بحمرة الخجل، وتابعت عباراتها، لا يخفف من وطأة الوجل ما سمعت من ذلك الشيخ من عبارات بدرت وكأنما قصد بها أن تهدئ من روعها: "ويلي! ويلي! كيف يخفى الأمر بعد هذا، والناس شهود من حولنا على هذا الذي تبغي!".
فـَرَدَ الشيخ ذراعيه، فثار ضباب عظيم لفهما معا، وإذ تلاشى عاد كل إلى حاله، وكأن أمرا لم يقع. ولكن ذلك ما كان ليخفف من اضطراب الفتاة ستيافاتي، وأخذت الأفكار تنتابها من كل طرف، ولا تدري ما سيكون حالها بعد اليوم.
قال الشيخ وقد لحظ اضطرابها: "لا بأس عليك، يا فتاة! فأنت ما زلت على العفة، لم يمسسك سوء وحسبك هذا من الأمر!".

في ذلك اليوم المشهود، وضعت ستيافاتي في تلك الجزيرة الواقعة في منتصف نهر يامونا، طفلا معجزة لم تلد النساء مثله من قبل! نطق الطفل أول ما أطل على العالم معلنا أنه يتخذ الزهد، منذ تلك اللحظة، طريقا في الحياة، ثم ما أن أتم عباراته حتى نهض مغادرا، وهو يقول لأمه: "أي أم، إن احتجت لي في أمر، فحسبك أن تستدعيني بخاطرك، فأمثل أمامك في التو واللحظة!".

وعرف هذا الفتى منذ ذلك الحين باسم دوايبايانا، أي مولود الجزيرة، ونشأ على الفضيلة حتى تردد صدى اسمه عبر العصور، ثم قام على جمع الأسفار المقدسة لتفيد منها الإنسانية كلما داهمتها داهمة كحالها في كل عصر، وعرف لذلك باسم فياسا، أي جامع الأسفار.

14 أغسطس 2011

نــُــــتـــَــف 4 (ألهاكـــُـمُ التـَّـفاخـُرُ – ج 3 والأخير)

انتهى الجزء الثاني من هذه القصة عندما قال الرجل إنه لا ينتمي إلى بني أمية وإنما إلى بني هاشم ورد الجارية الذكية عليه فأعاد النظر بانتمائه إلى بني هاشم...
قال: لا والله ما أنا من بني هاشم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من همدان، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا همدان دارت يوم حرب ...... رحاها فوق هامات الرجال
رأيــتــهم يحــثـــون المــطــايـــا ..... سراعـــاً هاربــيــن من القتال
قال: لا والله ما أنا من همدان، قالت، فممن أنت؟ قال: رجل من قـُضاعة، قالت: أتعرف الذي يقول:
لا يفخرنَّ قضاعيّ بأسرته .... فليس من يَمَنٍ محضاً ولا مـُضـَر
مذبذبين فلا قحطان والدهم .... ولا نزار، فخلوهم إلى سقر
قال: لا والله ما أنا من قضاعة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من شيبان، قالت: أتعرف الذي يقول:
شيبان قوم لهم عديدٌ .... فكلهم مقرف لئيم
ما فيهم ماجدٌ حسيب .... ولا نجيب ولا كريم
قال: لا والله ما أنا من شيبان، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني نـُمـَيـْر، قالت: أتعرف الذي يقول:
فغضّ الطرف إنك من نمير ..... فلا كعباً بلغت ولا كِلابا
فلو وُضِعَت فِقاحُ بني نمير .... على خَـبـَـثِ الحديد إذاً لذابا
قال: لا والله ما أنا من نمير، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من تغلب، قالت: أتعرف الذي يقول:
لا تطلبنّ خؤولة في تغلب ..... فالزنج أكرمُ منهم أخوالا
والتغلبي إذا تنحنح للقِرى ..... حكَّ اسـْتـَــه وتمثَّل الأمثالا
قال: لا والله ما أنا من تغلب، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من مجاشع، قالت: أتعرف الذي يقول:
تبكي الـمُـغــِـيبــَـــة من بنات مـُجاشع .... ولها إذا سُـمِـعت نهيقُ حمار
قال: لا والله ما أنا من مجاشع، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من كلب، قالت: أتعرف الذي يقول:
فلا تقربا كلباً ولا باب دارها .... فما يطمع الساري يرى ضوء نارها
قال: لا والله ما أنا من كلب، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من تَـيْـم، قالت: أتعرف الذي يقول:
تيمية مثل أنف الفيل مقبلها .... تهدى الرحا ببنان غير مخدوم
قال: لا والله ما أنا من تيم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من جَـرْم، قالت: أتعرف الذي يقول:
تـُـــمـنـّـيني سويقَ الكرْم جرمٌ .... وما جرم وما ذاك السويق
فما شربوه لما كان حلاًّ .... ولا غالوا به في يوم سوق
فلما أنزل التحريم فيها .... إذا الجرمي منها لا يفيق
قال: لا والله ما أنا من جرم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من سليم، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا ما سليم جئتها لغدائها ..... رجعت كما قد جئت غرثان جائعا
قال: لا والله ما أنا من سليم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من الموالي، قالت: أتعرف الذي يقول:
ألا من أراد الفحش واللؤم والخنا ..... فعند الموالي الجــِــيدُ والطّرفانِ
قال: أخطأت نسبي ورب الكعبة، أنا رجل من الخوز، قالت: أتعرف الذي يقول:
لا بارك الله ربي فيكم أبداً ..... يا معشر الخوز، إن الخوز في النار
قال: لا والله ما أنا من الخوز، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من أولاد حام، قالت: أتعرف الذي يقول:
لا تنكحن أولاد حام، فإنهم ..... مشاويه خلق الله حاشا ابن أكوع
قال: لا والله ما أنا من ولد حام، لكني من ولد الشيطان الرجيم، قالت: فلعنك الله ولعن أباك الشيطان معك، أفتعرف الذي يقول:
ألا يا عباد الله هذا عدوكم ..... وهذا عدو الله إبليس فاقتلوا
فقال لها: هذا مقام العائذ بك، قالت: قم فارحل خاسئاً مذموماً، وإذا نزلت بقوم فلا تنشد فيهم شعراً حتى تعرف من هم، ولا تتعرض للمباحث عن مساوئ الناس، فلكل قوم إساءة وإحسان، إلا رسول رب العالمين، ومن اختاره الله على عباده، وعصمه من عدوه، وأنت كما قال جرير للفرزدق:
وكنتَ إذا حللتَ بدار قوم .... رحلتَ بخزيةٍ وتركت عارا
فقال لها: والله لا أنشدت بيت شعر أبداً.
فقال السفاح: لئن كنت عملت هذا الخبر ونظمت فيمن ذكرت هذه الأشعار فلقد أحسنت، وأنت سيد الكاذبين، وإن كان الخبر صدقا وكنت فيما ذكرته محقاً فإن هذه الجارية العامرية لمن أحضر الناس جواباً، وأبصرهم بمثالب الناس.
قال المسعودي: وللسفاح أخبار غير هذه وأسمار حسان قد أتينا على مبسوطها في كتابينا أخبار الزمان والأوسط.

12 أغسطس 2011

نـُــتـَــف 4 (ألهاكــُـمُ الـتـفـاخــرُ – ج 2)

ونواصل هذه القصة التي ذكرها المسعودي في كتابه "مروج الذهب" وهي قصة الرجل الذي "لا يعرف أصله" ورد الجارية الذكية عليه في كل قبيلة، وآخر ما قاله الرجل في الجزء الماضي أنه لا ينتمي إلى قبيلة الأزد ولكنه ينتمي إلى خزاعة، فردت عليه الجارية ببيت من الشعر جعله يبرأ من انتمائه إلى خزاعة...

قال: لا والله ما أنا من خزاعة، قالت، فممن أنت؟ قال: رجل من سليم، قالت: أتعرف الذي يقول:
فما لسُليْم شتت الله أمرها  ....  تنيك بأيديها وتَعْيا أيورها
قال: لا والله ما أنا من سليم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من لقيط، قالت: أتعرف الذي يقول:
لعمرك ما البحار ولا الفيافي .....  بأوسع من فِقاحِ بني لقيط
لقيطٌ شر من ركب المطايا   .....  وأنذل من يدب على البسيط
ألا لعــن الإلــهُ بني لـقــيــط  .....  بقايا سبية من قوم لوط
قال: لا والله ما أنا من لقيط، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من كندة، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا ما افتخر الكِنْدِيُّ  .....  ذو البهجة والطُّرَّه
فبالنــســج وبالــخــف   ......   وبالسدل وبالحفره
فدع كندة للنسج   ......   فأعلى فخرها عُرَّه
قال: لا والله ما أنا من كندة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من خَثعَم، قالت: أتعرف الذي يقول:
وخثعم لو صَفَرْتَ بها صفيراً .... لطارت في البلاد مع الجراد
قال: لا والله ما أنا من خثعم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من طيء، قالت: أتعرف الذي يقول:
وما طيء إلا نـبـيــطٌ تــجـمـعــت  ....  فقالت طيانا كلمة فاستمرت
ولو أن حُرّ قوصاً يمد جناحه  ....  على جبلَيْ طي إذا استظلت
قال: لا والله ما أنا من طيء، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من مُزينة، قالت: أتعرف الذي يقول:
وهل مزينة إلا من قبيلة ..... لا يُرتجـى كرم فيها ولا دين
قال: لا والله ما أنا من مزينة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من النّخَع، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا النخع اللئام غدوا جميعاً .... تأذى الناس من وفر الزحام
ومـا تــســمــو إلى مــجــد كــريــــم  .....  وما هم في الصميم من الكرام
قال: لا والله ما أنا من النخع، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من أوْد، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا نزلـتَ بأودٍ في ديــارهــم   ......  فاعلم بأنك منهم لست بناجي
لا تركننّ إلى كهل ولا حدثٍ ..... فليس في القوم إلا كل عفّاج
قال: لا والله ما أنا من أود، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من لخم، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا ما انتمى قوم لفخر قديمهم  ....  تباعد فخر القوم من لخم أجمعا
قال: لا والله ما أنا من لخم، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من جُذام، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا كأس المدام أدير يوماً  .....  لمكرمة تنحّـى عن جذام
قال: لا والله ما أنا من جذام، قالت: فممن أنت ويلك؟ أما تستحي؟ أكثرت من الكذب! قال: أنا رجل من تـَنوخ، وهو الحق، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا تـَنــوخ قطــعـت منــهــلاً   .....  في طلب الغارات والثار
آبَتْ بخزي من إله العلى .....  وشهرة في الأهل والجار
قال: لا والله ما أنا من تنوخ، قالت: فممن أنت ثكلتك أمك؟ قال: أنا رجل من حِمْـيَـر، قالت: أتعرف الذي يقول:
نــُــبــِّــئـــت حمير تهجوني، فقلت لهم:  ...... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا
لأن حــمــيــر قـــوم لا نــصــــاب لهــم  .......   كــالــعـــود بالـــقــاع لا ماء ولا ورق
لا يكــثـــرون وإن طالت حياتــهم  ......   ولـو يــبـــول عــليهم ثــعلــب غــرقوا
قال: لا والله ما أنا من حمير، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من يُحابر، قالت: أتعرف الذي يقول:
ولو صرَّ  صرّار بأرض يحابر   ....   لماتوا وأضحوا في التراب رميما
قال: لا والله ما أنا من يحابر، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من قـُشـَيـْر، قالت: أتعرف الذي يقول:
بني قشير قتلتُ سيدكم   ....   فاليوم لا فِدية ولا قَوَدُ
قال: لا والله ما أنا من قشير، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من أمية، قالت: أتعرف الذي يقول:
وهــي مـــن أمـــيـّــــة بـــنــــيـــــانــهــا    ......   فــهــان عــلــى الله فــقــدانــها
وكــانــت أمــيــة فيما مــضــى   .....   جريء على الله سلطانها
فلا آلُ حرب أطاعوا الرسول  .....  ولم يتـّقِ اللهَ مروانها
قال:لا والله ما أنا من بني أمية، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني هاشم، قالت: أتعرف الذي يقول:
بني هاشم عودوا إلى نخلاتكم  .....  فقد صار هذا التمر صاعاً بدرهم
فإن قــلتــم رهطُ النبي محمد  ......  فإن النصارى رهط عيسى ابن مريم
وبعد غد نكمل مع الجزء الثالث من ألهاكم التفاخر

11 أغسطس 2011

نــُــتــَــف 4 (ألـــهــاكــُــمُ الــتــّــفــاخــُــرُ - ج 1)

هي من مسامرات الخليفة العباسي الأول أبو العباس السفاح، وقصة اليوم

من كتاب "مروج الذهب ومعادن الجوهر" لأبي الحسن بن علي المسعودي، ويقول:

ومما ذكر من أخباره واستفاض من أسماره، ما ذكره البهلوان بن العباس عن الهيثم بن عدي الطائي، عن يزيد الرقاشي، قال: كان السفاح يعجبه مسامرة الرجال، وإني سمرت عنده ذات ليلة، فقال: يا يزيد، أخبرني بأظرف ما سمعته من الأحاديث، فقلت: يا أمير المؤمنين، وإن كان في بني هاشم؟ قال: ذلك أعجب إلي، قلت:

يا أمير المؤمنين، نزل رجل من تَنوخَ بحي من بني عامر بن صعصعة، فجعل لا يحط شيئا من متاعه إلا تمثل بهذا البيت:
لعمرك ما تَبْلى سرائر عامرٍ .... من اللؤم ما دامت عليه جلودها

فخرجت إليه جارية من الحي، فحادثته وآنسته، وسألته حتى أنس بها، ثم قالت: ممن أنت مُتّعتُ بك؟ قال: رجل من بني تميم، فقالت: أتعرف الذي يقول:
تميمٌ بطُرْقِ اللؤم أهدى من القطا ...... ولو سلكت سُبْلَ المكارم ضلّتِ
ولو أن برغوثاً على ظهر قملة .... يكر على جمْعيْ تميم لولّتِ
ذبحنا فسمينا فتم ذبيحنا ..... وما ذبحت يوماً تميمُ فسمّتِ
أرى الليل يجلوه النهار، ولا أرى .... عظام المخازي عن تميم تجلّتِ

فقال: لا والله ما أنا منهم، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من عِجْلٍ، قالت: أتعرف الذي يقول:
أرى الناس يعطون الجزيل، وإنما ...... عطاء بني عجل ثلاث وأربعُ
إذا مات عجليّ بأرضٍ فإنما ...... يشق له منها ذراع وإصبعُ

قال: لا والله ما أنا من عجل، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني يشكر، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا يشكريّ مسَّ ثوبَكَ ثوبُهُ ..... فلا تذكرن الله حتى تطهرّا

قال: لا والله ما أنا من يشكر، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني عبد القيس، قالت: أتعرف الذي يقول:
رأيت عبد القيس لاقت ذلا ..... إذا أصابوا بَصَلاً وخَلاّ
ومالحاً مصنعاً قد طلا ..... باتوا يسلون النساء سلا
سلَّ النبيط القَصَبَ المبتلا

قال: لا والله ما أنا من عبد القيس، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من باهلة، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا ازدحم الكرام على المعالي ..... تنحّى الباهليُّ على الزحام
فلو كان الخليفةُ باهلياً ..... لقصر عن مناوأة الكرام
وعِرْضُ الباهلي وإن توَقــّى .... عليه مثل منديل الطعام

قال: لا والله ما أنا من باهلة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني فَزارَةَ، قالت: أتعرف الذي يقول:
لا تأمننَّ فزارياً خَلَوْتَ به ...... على قَلوصِكَ، واكتبها بأسيار
لا تأمننَّ فزارياً على حـُمر..... بعد الذي امتلَّ أير العير في النار
قوم إذا نزل الأضياف ساحتهم...... قالوا لأمهم: بولي على النار

قال: لا والله ما أنا من فزارة، قالت: فممن أنت؟ قال: أنا رجل من ثقيف، قالت: أتعرف الذي يقول:
أضل الناسبون أبا ثقيف ..... فما لهم أبٌ إلا الضلال
فإن نُسِبَتْ أو انتسبت ثقيف ...... إلى أحد فذاك هو المحال
خنازير الحُشوشِ فقتِّلوها ..... فإن دماءها لكم حلال

قال: لا والله ما أنا من ثقيف، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني عبس، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا عبسية ولدت غلاماً .... فبشِّرها بلؤم مستفاد

قال: لا والله ما أنا من عبس، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من ثعلبة، قالت: أتعرف الذي يقول:
وثعلبة بن قيس شرُّ قوم .... وألأمهم وأغدرهم بجار

قال: لا والله ما أنا من ثعلبة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني مرة، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا مُرّية خضبت يداها .... فزوجها ولا تأمن زناها

قال: لا والله ما أنا من بني مرة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بني ضبة، قالت: أتعرف الذي يقول:
لقد زَرِقت عيناك يا ابن مكعبر ..... كما كل ضَبّيٍّ من اللؤم أزرق

قال: لا والله ما أنا من بني ضبة، قالت: فممن أنت؟ قال: رجل من بجيلة، قالت: أتعرف الذي يقول:
سألنا عن بجيلة حين حلت .... لنخبر أين قرَّ بها القرار؟
فما تدري بجيلة حين تُدعى .... أقحطان أبوها أم نزار؟
فقد وقعت بجيلة بين بين .... وقد خلعت كما خلع العذار

قال: لا والله ما أنا من بجيلة، قالت: فممن أنت ويحك؟ قال: رجل من بني الأزْد، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا أزدية ولدت غلاماً .... فبشرها بملاح مجيد

قال: لا والله ما أنا من الأزد، قالت: فممن أنت ويلك؟ أما تستحي؟ قل الحق، قال أنا رجل من خزاعة، قالت: أتعرف الذي يقول:
إذا افتخرت خزاعة في قديم ... وجدنا فخرها شرب الخمور
وباعت كعبة الرحمن جهرا .... بزِقٍّ، بئس مفتخر الفخور


وغدا نكمل مع الجزء الثاني من ألهاكم التفاخر

08 أغسطس 2011

نـُــتـَـــف 3 (مفاخر العرب - ج2 والأخير)

نواصل اليوم حوار النعمان بن المنذر ملك العرب وكسرى ملك الفرس، والذي أورده الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وقد انتهى الحوار عند ذكر النعمان للصفات الحسنة وللخصال الخيّرة عند العرب... ويقول:


وأما حكمة ألسنتها: فإن الله تعالى أعطاهم أشعارا، ورونق كاملا، وحسن وزنه وقوافيه، مع معرفتهم بالإشارة وضربهم الأمثال، وبلاغتهم في الصفات ما ليس من ألسنة الأجناس.
ثم إن خيولهم أفضل الخيول، ونساءهم أهف النساء، ولباسهم أحسن اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وأحجار جبالهم الجزع، ومطاياهم التي لا يبلغ إلا على مثلها سفر، ولا يقطع إلا بمثلها بلد قفر.

وأما دينها وشريعتها: فإنهم متمسكون به أعظم تمسك، وإن لهم أشهرا حرما، وبلدا محرما، وبيتا محجوجا، ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل فيه قاتل أبيه وأخيه، وهو قادر على أخذ ثأره منه وإدراك رغمه فيه، فيحجزه كرما، ويمنعه دينه عن تناوله إياه، احتراما لذلك البيت وتشريفا له.

وأما وفاؤهم: فإن أحدهم يلحظ اللحظة، فهي عقد لأهلها، لا يرجع عما أضمره في نفسه حتى يبلغه، وأحدهم يرفع عودا من الأرض، فيكون رهنا بدينه فلا يطلق رهنه ولا يخفر ذمته، خوفا من الله تعالى، وإن أحدهم يبلغه أن أحدهم استجار به وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيمنع عنه عدوه، ويحميه منه ولو تفنى قبيلته، أو تلك القبيلة التي استجار عليها، وذلك لما أخفر من جواره، وإن أحدهم ليلجأ إليه المحروم، والمحدث عنه، بغير معرفة ولا قرابة فينزلونه عندهم، وتكون أنفسهم وأموالهم دون ماله.
وأما قولك أيها الملك، حفظك الله: إنهم يقتلون أولادهم من الحاجة فإنما يفعله من فعله منهم رغم أنفه حذرا من العار، وخيفة وغيرة من الأزواج.

وأما قولك أيها الملك: إن أفضل طعام ظفروا به لحوم الإبل على ما وصفت منها فما تركوا ما دونها إلا احتقارا له، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم ومطاعمهم، من أنها أكثر البهائم لحوما، وأطيبها شحوما، وأرقها ألبانا، وأقلها غائلة، وأحلاها مضغة، وإنه لا شيء من اللحوم يفاخر لحمها إلا استبان فضلها عليه.

وأما محاربتهم وأكلهم بعضهم بعضا، وتركهم الانقياد إلى رجل واحد يسوسهم ويدبر أمورهم، فإنما يفعل ذلك من الأمم من علمت الضعف أنفسها، وتخوفت من نهوض عدوها عليها، فإنهم يحتاجون إلى ملك، يدبر أمرهم، ويكون رجلا من أعظمهم شأنا وقدرا، ويكونون معترفين بشرفه على سائرهم فينقادون إليه بأزمتهم، وينقادون إلى أمره.

وأما العرب: أيها الملك، فإن كثيرا فيهم، لعظم كرمهم ووقارهم، ودينهم وحكمة ألسنتهم، وسخاء نفوسهم يقولون: إنهم ملوك بأجمعهم مع رفعتهم، فلا ينقاد أحد إلى الآخر فإنهم أشراف.
وأما اليمن، التي وصفها الملك، فإن آباءك وأجدادك أعلم بصاحبها لما أتاه ملك الحبشة في مائتي ألف، وتغلب على ملكه وجاء إلى بابك وهو مستصرخ ذليل حقير مسلوب فلم يجره أحد من أجدادك وآبائك، فاستجار بالعرب فأجاروه، ولولا ما وتر به من بلية العرب لمال إلى نقص، ولم يرجع إلى محله، ولولا أنه وجد من يجيد معه الطعان بقيل الأحرار، وتبدد شمل الكفار، ويذبح العبد الأشرار لم يرجع إلى اليمن.

قال فعجب كسرى مما جاء به النعمان، ثم قال له: إنك لأهل موضعك من الرياسة ولأهلك ولأهل إقليمك، ولما هو أفضل منه ثم كساه وأنعم عليه وأعطاه أشياء جزيلة ثم سيره إلى موضعه من الحيرة، ثم بعد سير إليه وقتله.

والتنوخية فرقة من اليمن، وقال المتنبي على لسان بعضهم:

قــضــاعة تــــعـلم أني الــفــــتى الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذي ادخرت لصروف الزمان
ومــجدي يـدل على بني خـنـذف      عـــلــــى أن كــــــل كــــــــريــــــــم يـــــــــمـــــــــان
أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء       أنا ابن الضراب أنا ابن الطعان
أنا ابن الفيافي أنا ابن القوافي      أنا ابن السروج أنا ابن الرعان
طـويـــل الــنـــجاد طـويــل الــعمـاد      طـــويــــل الــقــنــاة طـــويـــل الــســنــان
حديد اللحاظ حديد الحفاظ     حديد الحسام حديد الجنان
يــســـابــــق ســيـــفــي مــنــايـــا الــعــبــاد     إلـــيـــــهـــم كـــــــأنـــــــهــــــم فــــــــي رهــــــــــــان
يـــرى حـــده غــامــضــات القــلوب      إذا كـــــنــــــت فـــي هــــــبـــــوة لا أراني
سـنـجــعــلــه حــكــمــا في الـــنــفوس     ولو نــــــــاب عــنــه لــســاني كــفـــاني