28 أبريل 2012

لنبتعد عن الثرثارين

البارحة دورت بأوراقي القديمة... لكن ما لقيت "بقايا جروح أو ذكرى أليمة" بقدر ما لقيت كلمات كنت كاتبها قبل سنوات "سنوات المراهقة والسذاجة الفكرية"... وهذا ما كتبت في شهر مايو سنة 2002 ....


أساءل نفسي بين الحين والآخر.. لماذا يمارس بعض الناس "الثرثرة" !! فهم يمارسونها كما يمارسون عادة الأكل والشرب والنوم.. وطبعا البون شاسع ما بين تلك الممارسات.. لأن الأكل والنوم هي من حاجات الجسم لكن الثرثرة!! هل هي من حاجات الجسم المهمة ؟! .. لا أدري..

فبعض الناس يعتبرون الثرثرة أمرا مهما.. فلا يمضون ثانية واحدة دون أن يثرثروا.. والكارثة أن هذه الثرثرة تدخل في كل الموضوعات في هذه الحياة.. فهؤلاء الناس يثرثرون  "في الفاضي  والمليان" .. وهم يجيدون التحليل السياسي.. ويبدعون في عمل الصحافة.. وينتقدون الأعمال المسرحية وكأن كل واحد منهم عمل في هذا المجال.. بل ومع ذلك كله يتكلمون عن آخر صيحات الموضة.. ثم يتباحثون في شأن أفضل الأطباق الصينية والهندية ويدخلون في تحدٍ كبير مع "الشيف رمزي" في صناعة تلك الأطباق..

أحتاج دائما إلى الابتعاد عن هؤلاء المثرثرين حتى أتمكن من صياغة كلمات الحب الصادق لك ... لأنني كلما ابتعدتُ عنهم أجد نفسي قريبا منك.. فأنت العقل الذي به أفكر.. وأنت الروح التي تمدني بالحياة.. وأنت البستان الذي أتمتع بمنظره الجميل الهادئ .. وأنت الهدوء الرومانسي خالقُ الحب الجميل.. وأنت كل شيء جميل في هذا الكون كله.. فأنا أشكر الله دائما.. لأنه خلقك لي وحدي... لأنك أنت ذاتي وكياني .. والإنسان لا يعيش محترما إن كان بلا ذات ولا ثقة.. فأنت ثقتي في نفسي وذاتي .. فهيا نعيش بعيدا عن الثرثارين في جزيرة الهدوء والحب..




أتوقع لو أكتب اليوم (سنة 2012) لكانت الكلمات نفسها "ما عدا الشيف رمزي طبعا"... لأن الحين كثر الشيفون والشيفات... ولكن هناك كلمات أعدت النظر في تعريفها ومفهومها مثل الحب الصادق والعقل والروح والجمال... أشوفها كلمات مبهمة مطاطة زيادة عن اللزوم.. كلمات حسنة الشكل لكن في مضمونها سم ... على طريقة "ومن الحب ما قتل"...

موضوع شاغلني صار له فترة (أكثر من سنتين)... عن معنى جملة وردت في رواية "الرابح يبقى وحيدا" لباولو كويلو وهي "سأحطم عوالم لأبني عالمي"...  تجربة مثيرة ومغامرة لا تخلو من خطورة إني أحطم عوالم علشان أبني عالمي.... يـبـيـلــه أو يـِـنـْـراد له .... 


27 أغسطس 2011

نــُــتــَــف 7 والأخيرة (شعب مثقف في أمسية كافكا)

هذه القصة ذكرها إبراهيم وطفي مترجم الآثار الكاملة لفرانز كافكا مع تفسيراتها. وهو موقف تعرض له أثناء ترجمته للآثار .
فقصة اليوم

من كتاب "الآثار الكاملة لفرانز كافكا مع تفسيراتها ج1 - الأسرة"، ويقول وطفي:
في عام 1914 تلا كافكا قصة الانمساخ لدى صديقه ماكس برود. وعن ذلك كتب في يومياته: سهرة جميلة عند ماكس. قرأت قصتي بسرعة جنونية.
وفي تموز 1924، بعد وفاة كافكا بشهر، كتب ماكس برود: "من أتيح له أن يستمع إلى كافكا وهو يتلو من آثاره، في حلقة صغيرة، بحماس يأخذ النفس، وإيقاع لن يبلغ مثل حيويته قط، كان يحس بشكل مباشر أيضا رغبة الإبداع الحقيقية الجامحة والولع الذي كان يقف وراء هذه الآثار".


بتاريخ 9 / 1 / 1995 حضرتُ أمسية أدبية قام أثناءها ممثل مسرحي بقراءة قصة الانمساخ. وكان ذلك في مسرح بلدة بادغودسبرغ التي يبلغ عدد سكانها نحو سبعين ألف نسمة (إداريا هي جزء من مدينة بون).
قبل أيام قليلة من هذه الأمسية كانت صحيفة محلية صغيرة توزع في البلدة وحدها قد نشرت في باب "الأمسيات الثقافية" إعلانا صغيرا جدا مؤلفا من الكلمات التالية: " الاثنين 9 كانون الثاني، الساعة 20، ردهة مسرح الجيب، روبرت غالينوفسكي يقرأ الانمساخ لفرانز كافكا (الدخول مجانا)".

في طريقي إلى المسرح تساءلت وفكرت : "كتبت قصة الانمساخ في زمان ومكان آخرين، في دولة أخرى، في مجتمع آخر، في عصر آخر، في عام 1912 في مدينة براغ التابعة لامبراطورية النمسا والمجر. ما علاقة هذه القصة بالناس في بلدة بادغودسبرغ في ألمانيا في عام 1995؟ من منهم قرأ هذه القصة؟ ولماذا قرأها؟ من يترك دفء منزله وشاشة التلفزيون ويتجشم عناء السفر في ليلة شتاء ماطرة من أجل أن يسمع أحدهم يتلو هذه القصة على مسامعه؟ مجرد تلاوة وسماع فقط، دون مقدمات، دون شروحات، دون نقاش؟ (معروف أن مثل هذه الأمسية تقتصر على التلاوة). هل أكون المستمع الوحيد؟"

وصلتُ باكرا قليلا، فوجدت نحو عشرين شخصا في القاعة. أخذت مكانا في الصف الأول على آخر كرسي. وعندما دقت الساعة الثامنة كان عدد الحاضرين قد بلغ ما يقرب المائتين، نساء ورجالا، أفرادا وأزواجا. تتراوح أعمارهم بين العشرين والستين عاما.

وعندما بلغت الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة دخل ممثل شاب يرتدي ملابس يومية بسيطة، إلى خشبة القاعة، حيث كان قد وُضع طاولة بسيطة عليها قنينة ماء وكأس ومصباح مكتب. نزع الممثل معطفه ووضعه على الكرسي، وتناول من جيبه نسخة من كتاب الانمساخ، ووضعها على الطاولة. توجه إلى الحضور وقال : "أنا روبرت غالينوفسكي سأقرأ عليكم قصة الانمساخ لكافكا". وجلس، وبدأ التلاوة.

كانت تلاوة الصفحة الأولى تلاوة عادية لا تنبئ عن شيء غير عادي. لكن سرعان ما أصبحت التلاوة عملية تمثيل لا تختلف عن تمثيل دور على خشبة المسرح. صحيح أن الممثل ظل جالسا طوال الوقت، لكنه استخدم وسائله الأخرى في التمثيل: حركة اليدين، تعابير الوجه، والوصف بشكل خاص.
وكنت قد زحزحت الكرسي الذي أجلس عليه بشكل أستطيع معه أن أدير رأسي إلى الوراء دون عناء ودون لفت انتباه كبير. ومرات عديدة رحت أتجول بناظري في وجوه المستمعين، فلم ألاحظ سوى استغراقهم في الاستماع وكأنهم يحضرون مسرحية حقيقية.

وعندما انتهى الممثل من تلاوة القصة بكاملها دون أن يتجاوز كلمة واحدة، وقال: "هذا هو الحال"، ونهض واقفا، فاندلع تصفيق حاد طويل كما يجري بعد انتهاء مسرحية ناجحة.
وكان الناس متأثرين غاية التأثر. نظرت إلى ساعتي فكانت قد بلغت التاسعة تماما. أي أن قصة الانمساخ تُليَتْ بكاملها خلال خمس وخمسين دقيقة.
لا أظن أن أحدا من الحاضرين جاء إلى هذه الأمسية دون أن يكون قد قرأ القصة سابقا. لم يأت أحد إلا لأن القصة أثرت في نفسه ذات مرة، فحضر الآن كي يزداد إعجابه بها.


بعد أن تلقى الممثل تصفيق الجمهور بعدة انحناءات، تناول معطفه، ونزل عن الخشبة، وخرج. لحقت به أمام القاعة وهو يرتدي معطفه. قلت له: "شكرا. كانت تلاوة رائعة. لقد استمعت إليك لأنني أقوم حاليا بترجمة الانمساخ. سرّ وسأل: "إلى أي لغة؟" قلت "إلى العربية". فظننت أنني لحظت في عينيه نظرة اندهاش. اتسعت حدقتا عينيه وقال: "الموضوع واحد في العالم كله".

أتمنى أن تكون هذه النــُــتــَــف حازت القبول...
وهذا هو الحال .. وكل عام وأنتم بألف خير

22 أغسطس 2011

نــُــتــَــف 6 (القبور التسعة في منطقة الظهر الكويتية - ج 2 والأخير)

نستكمل اليوم ما ذكره السير ديكسون في كتابه "الكويت وجاراتها" في شأن قصة القبور التسعة، إذ وصل إلى حيث قرر الأب مضرب تزويج ابنه شريب من ابنة عمه فغضب شريب و...

وأحس بإهانة شديدة وأقسم أنه لن يتزوج مهما طال به الأجل إلا من أحبها، رخيصة، ولكن المتاعب بدأت تتوالى أمامه. وبالرغم من أن العبادة – وهم أيضا من بني مالك- كانوا جيرانا لا يحملون لغيرهم إلا الود، وعلى استعداد لتزويج بناتهم من ال[....]، إلا أنه، عمليا، لم يحدث قط أن سُمح لرجل من ال[.....] أن يتزوج فتاة من العبادة.
وعندما توجه عبدالله ال[.....]، وهو من كبار شيوخ أسرته، إلى مدينة الكويت بعد بضعة أيام وبصحبته مجموعة من النساء جئن لشراء احتياجاتهن، أعد فزع القهوة في خيمته وجمع أغلب أعضاء أسرته لمناقشة الموقف. ونظرا لحالة عدم الاستقرار السائدة في ذلك الوقت، جلس الرجال حول النار وكل منهم يضع غدارته المشحونة بالطلقات فوق ركبته، بينما خزانات الذخيرة تلتف حول خصره، وكانت رخيصة أيضا بحبة تلك المجموعة من النساء، واللاتي حاولن مرارا إقناعها باستحالة زواجها من شريب.

وبعد تناول القهوة، بدأ الجدل، وشرعت الدماء تغلي في عروق شريب الذي رفض الانصياع لأي منطق. وفجأة، وفي سرعة البرق، ودون التوقف لحظة للتفكير في العواقب، أطلق أحد الشباب نار غدارته من مسافة قريبة جدا على شريب فأرداه قتيلا في الحال. وفي نفس اللحظة لقي القاتل مصرعه هو الآخر، لتتحول الخيمة كلها إلى جمع أعماهم الغضب فراحوا يتبادلون إطلاق الرصاص في كل اتجاه. وبينما رخيصة تهرول لتغادر الخيمة وصوتها يعلو بالصراخ، أصابتها طلقة في ظهرها فلقيت مصرعها، وولت بقية النساء الأدبار فزعات، واتجهن إلى الصحراء لينخرطن في العويل والبكاء، وهن يمزقن ملابسهن ويضربن صدورهن بقبضات الأيدي.

ولم يفلت إلا أربعة أشخاص، فزع، والشاب عبدالعزيز، وشقيقاه شديّد ومزعل، وإن كانوا جميعا أصيبوا بجراح، كانت جثث القتلى تتناثر من حولهم، واستوعب فزع حقيقة الموقف قبل غيره، فأمر عبدالعزيز، وكانت إصابته أقل خطورة من الآخرين، بأن يتوجه إلى المدينة ليحضر عبدالله على وجه السرعة، وجرى عبدالعزيز إلى راحلته فحل قيدها الحديدي وألقى به على الأرض، وامتطاها ليشق طريقه بأقصى ما يستطيع من سرعة نحو المدينة، على بعد ستة ثلاثين ميلا.

وعندما بلغ المدينة وجد عبدالله والنساء مجتمعات في ساحة السوق (الصفاة)، وما زال الكثيرون يذكرون ذلك اليوم وما شهده من أحداث عصيبة عندما وصل الفرسان الذين أثخنتهم الجراح واستبد بهم الإعياء، يحملون الأنباء التي تقشعر لها الأبدان.

وعلى الفور، قفز عبدالله – وهو المعروف دائما بالهدوء وضبط النفس- فامتطى راحلته وانطلق بأقصى ما يستطيع من سرعة، أما النساء، وكن حوالي عشرا، فخيم عليهن حزن عميق وانخرطن يُوَلولن في نحيب وعويل ويمزقن شعورهن وثيابهن، ويدرن حول أنفسهن جريا في الساحة وكأنما أصابهن مس من جنون، وانتشرت الأنباء انتشار النار في الهشيم لتصل إلى كل ركن من أركان المدينة، فهب الناس واندفعوا ليحتشدوا من حولهن، وأقبلت عليهن صديقاتهن مواسيات، وتنافست الأيدي لمساعدتهن في تحميل حميرهن، وبعد الظهر، غادرن المدينة وهن يجررن سيقانهم جرا بعد أن كاد الحزن يشل حركتها، ومن ورائهن أغنامهن وحميرهن في طريق طويل كان عليهن أن يقطعنه ليلا نحو موطنهن. وكم كانت مسيرة حزينة تتفتت لها الضلوع. وكان عبدالعزيز في صحبتهن.

وقبل مغيب الشمس، حفرت تسعة قبور جنبا إلى جنب، ووريت بها أجداث الرجال الثمانية والفتاة. وفي هذه المذبحة فقد فزع عمه مضرب وابن عمه شريب، وفقد عبدالله شقيقه جاسم ومطر وابن أخته كريم مطشر، بينما فقد عبدالعزيز شقيقه داوود، وفقد الصغير فيصل – ذو العينين الزرقاوين- أباه حسن.

وعندما ساد الظلام، كانت المجموعة الصغيرة التي أفلتت من الموت تصطف لأداء صلاة العشاء، فحمدوا الله رحمته رغم كل ما يعتصر قلوبهم من حزن وألم، واختتموا صلاتهم مرددين: "الحمد لله. الله يعطي، والله يأخذ".

حصلت على تفاصيل هذه القصة بشق الأنفس من فزع وغيره، لأن ال[....] لا يحبون الحديث عنها. وأنا لا أعرف على وجه التحديد من الذي بدأ بإطلاق الرصاص، ولا أخبرني ال[....] بذلك، وما زال المنتفق عازفين عن ترديد هذه القصة أو الخوض فيها حتى اليوم.




لهذا السبب لم أذكر اسم العائلة
ولأتأكد سألت أحد الأصدقاء أن يسأل زوجته -وهي من هذه العائلة- عن هذه القصة، فكانت إجابتها أنها لم تسمع بها...

21 أغسطس 2011

نــُــتــَــف 6 (القبور التسعة في منطقة الظهر الكويتية - ج1)

أنقل هذه القصة بتصرف، أولا: لن أذكر اسم القبيلة/العائلة، بل أكتفي بالأسماء الأولى أو الإشارة إلى جذور هذه القبيلة فحسب. ثانيا : حذفت بعض الفقرات اختصارا، رغم الوصف الجميل للصحراء الكويتية وساكنيها في ذلك الزمان، قبل 85 سنة...

قصة اليوم
من كتاب "الكويت وجاراتها" للسير هارولد ديكسون، ويقول:

وهذه قصة أخرى من قصص التعصب القبلي.

في ختام يوم طويل أمضيناه في رحلة صيد على امتداد سلسلة تلال الظهر بالكويت – في عام 1931، رجعنا، أنا وزوجتي، إلى مخيمنا عند أول الليل وقد أخذ منا الإرهاق كل مأخذ. كنت قد أمرت في الصباح بضرب خيمتنا السوداء وخيام مرافقنا، سالم المزين وأسرته، وإعدادها لنا في مكان اخترته كيفما اتفق في أرض فضاء عند منحدر لطيف في الطرف الغربي لسلسلة من التلال، في مواجهة تلال برقان. وفي هذه الليلة رأيت مصادفة، وعلى بعد حوالي مائة ياردة من خيمتنا، صفا من الآكام المنخفضة تضم تسعة قبور متجاورة عند سفح تل صغير. وعندما سألت، علمت بما حدث في هذا الموقع في شهر فبراير 1926.

أثناء الصيف وأوائل الخريف من كل عام، كان آل[...] - وهم فخذ صغير من بطن بني مالك- يعيشون على ضفة ترعة الغريفية بالقرب من سوق الشيوخ، أما في فصل الشتاء والربيع فكانوا يهاجرون جنوبا إلى الكويت مع غيرهم من قبائل الرعاة من المنتفق.
(......)
وكان كبير ال[....] هو المدعو فزع، وهو من أقرب أصدقائنا وكنت قد تعرفت به أيام عملي في سوق الشيوخ. وكان هو وأحد أقاربه – عبدالعزيز السمير (المعروف بالمسمار) هما اللذان أخبراني بقصة المذبحة التي تعرضت لها هذه الأسرة.

(قالا لي) : إنه في عام 1925 هطلت الأمطار مبكرة في البادية فاستبشر الجميع بربيع يقيم فيه الرفاء، ولكن الأوضاع لم تكن مستقرة، وكان المغيرون من الإخوان لا زالوا يقومون بمغامراتهم بالقرب من مدينة الكويت نفسها ويستولون على الأغنام والجمال، ولكن مهما كانت الأوضاع، كان من المحال منع رحلة الشمال التي درج عليها القوم كل عام منذ القدم؛ فقطعان الماشية وإناث الخيل لابد لها أن ترعى أعشاب وأزهار الصحراء التي تنمو في فصل الربيع، وبالإضافة إلى ذلك، فمع بداية هطول الأمطار في أراضي المنتفق، تبدأ حراثة الأرض وزراعة المحاصيل الجديدة، مما يتطلب نقل الأغنام والحمير بعيدا عن المساحات المخصصة للزراعة.

(...) في شهر فبراير 1926، ضرب آل[....] خيامهم على امتداد الجانب الغربي من سلسلة تلال الظهر المطلة على آبار عريفجان، على بعد حوالي الثمانية أميال جنوب شرق تلال برقان، ووفقا لعادة بدو العراق جميعا، لم يضربوا خيامهم في صفوف، كما يفعل بدو العربية السعودية، ولكنهم وزعوها متناثرة، فرادى أو كل خيمتين معا، حتى يسهل على أغنامهم الوصول إليها أثناء تجوالها، ولكن بحيث لا تبعد المسافة بين كل خيمة وأخرى عن القدر الذي يسمح بوصول صوت النذير عندما يطلق رصاصة في الهواء.

وقبائل الرعاة من المنتفق لا يملكون جمالا، ولذلك كانت خيامهم، التي لا وسيلة لديهم لنقلها إلا على ظهور الحمير الهزيلة، صغيرة الحجم قليلة الارتفاع.
(...)
وكان الشباب من ال[....]، شأنهم شأن الشباب من سائر قبائل المنتفق، يتميزون بالوسامة والصحة وقوة البنيان، وكان لأغلبهم فرس يركبها كل منهم وهو في الطريق إلى الكويت، وكثيرا ما كنت تراهم في أسواق المدينة يعقدون صفقاتهم ويشترون احتياجاتهم تاركين الفرس لتأكل في إحدى الحظائر المجاورة.

وكان شريب بن مضرب [....] أحد هؤلاء الشباب، وهو أكبر أبناء عم فزع، وكانت تجمعه منذ عدة أشهر قصة حب لا يعرف أحد عنها شيئا مع فتاة تدعى رخيصة، من قبيلة العبادة الصغيرة التي تعيش على الزراعة. ولم ينتشر نبأ هذه القصة إلا عندما أبلغ الأب، مضرب [....]، ابنه أنه سوف يعقد قرانه، عند العودة إلى مواطن المنتفق في الصيف، على ابنة عمه.
وغضب شريب وأحس بإهانة شديدة وأقسم أنه ....


ونكمل غدا الجزء الثاني من قصة القبور التسعة في منطقة الظهر الكويتية

17 أغسطس 2011

نـُــتـَــف 5 (الولادةُ المعجزةُ لجامع الأسفار المقدسة الحكيم فياسا)

قصة اليوم
من كتاب "المهابهاراتا" ملحمة الهند الكبرى، وتقول القصة
جلس فياسا متربعا، ثم شحذ طاقة ذهنه ما وسعه، حتى استحضر غانيشا ذا وجه الفيل، مفرج الكروب، ومزيل العقبات، ومحقق الأماني والرغبات. بادره فياسا قائلا: "أعرني سمعك! فلسوف أملي عليك ملحمة تفتق عنها الخيال، ورويت فيها قصة أمة، البهاراتا!".

رد غانيشا: "وإني مجيب طلبك، شرط ألا تتوقف عن الإملاء حتى لا ينقطع سيلان القلم بين أصابعي!".
ورد الحكيم فياسا بدوره: "وهذا ما سيكون، طالما كنت تستوعب ما أمليه عليك".

تهيأ غانيشا للكتابة فجلس متربعا على الأرض، ونطق بكلمة "أوم"، ثم أخذ القلم، وشرع يدون ما كان يلقيه فياسا. فسمع منه أعمق الأقوال بأسلس عبارة، وأحسن بيان، بعبارات متدفقة لا تنقطع إلا حين يمسك عن التدوين ليلتقط معنى غاب عنه، أو ليتدبر جملة أشكل عليه أمرها، أو مقصدا فاته. فكان فياسا يستريح عندئذ ليزيد روايته متانة، وإحكاما. وما زال هذا دأبه، تتدفق الرواية. على لسانه تدفق النهر العارم، حتى استهلك غانيشا قلمه، فانتزع أحد نابيه ليلحق بالراوي.

قال فياسا: كان الحكيم الزاهد برشارا يطوف البلاد قاصدا العتبات المقدسة، وبلغ ترحاله بقعة أخذت تتسرب عندها إلى أنفه رائحة نفاذة، فمضى يستقصي مصدرها، وما زال يسعى في أثر هذه الرائحة، حتى إذا صارت في أشد زخمها، صادف ابنة كبير الصيادين في ذلك الصقع النائي، وعلم منها أن اسمها ستيافاتي ووجد الفتاة تصلح قارب أبيها. فاقترب منها حتى تأكد أنها مصدر هذا العبق من الرائحة. كانت الفتاة مليحة القسمات، جميلة الوجه، ذات قوام فتان، فاضطرمت الرغبة في أعماقه واستبدت به. فراودها عن نفسها: "يا ابنة السحر، لقد فتنت بك، وطغى علي الوجد، أفلا تقبلين بي لأودعك حبي وشوقي".

هلعت الفتاة إذ وجدت هذا الشيخ المهيب يبرز أمامها، كأنما ولج إليها من أبواب الغيب ويخاطبها بما لا تقوى العذارى على سماعه، فقاطعته بصوت متحشرج به أثر من الذعر، قائلة: كيف يكون ذلك، أيها الشيخ، وما زلت عذراء في طاعة أبي، ولم يمسسني بشر، ولم أعرف المعصية من قبل!". رد الشيخ، وكأن كلماتها وقعت على أذن صماء: "هيا، يا فتاة! فليس في هذا زلل، أو معصية معي، وأنا الشيخ الزاهد، هيا يا فتاة، فلقاؤنا لقاء الأقدار!".

لم تزد كلمات الشيخ الفتاة إلا خوفا واضطرابا، وكأنما هي خطر يهدد هذه الحياة الهانئة الوادعة التي تعيش، وأخذت العبارات تتدفق منها مفصحة عن الوجل في أعماقها: "يا ويلي! أي مصير ينتظرني بعدما يتم لك مبتغاك؟ وماذا سيكون حالي بعد هذا وأنا في بيت والدي؟ يا لفضيحتي! ويا لعاري بعد هذا اليوم!". قال الشيخ مقاطعا: "هيا، أقدمي، ولا تترددي أمام قدرك! هيا، يا فتاة، فلن يمسسك سوء، ولن ينالك ضير!".

تضرجت وجنتاها بحمرة الخجل، وتابعت عباراتها، لا يخفف من وطأة الوجل ما سمعت من ذلك الشيخ من عبارات بدرت وكأنما قصد بها أن تهدئ من روعها: "ويلي! ويلي! كيف يخفى الأمر بعد هذا، والناس شهود من حولنا على هذا الذي تبغي!".
فـَرَدَ الشيخ ذراعيه، فثار ضباب عظيم لفهما معا، وإذ تلاشى عاد كل إلى حاله، وكأن أمرا لم يقع. ولكن ذلك ما كان ليخفف من اضطراب الفتاة ستيافاتي، وأخذت الأفكار تنتابها من كل طرف، ولا تدري ما سيكون حالها بعد اليوم.
قال الشيخ وقد لحظ اضطرابها: "لا بأس عليك، يا فتاة! فأنت ما زلت على العفة، لم يمسسك سوء وحسبك هذا من الأمر!".

في ذلك اليوم المشهود، وضعت ستيافاتي في تلك الجزيرة الواقعة في منتصف نهر يامونا، طفلا معجزة لم تلد النساء مثله من قبل! نطق الطفل أول ما أطل على العالم معلنا أنه يتخذ الزهد، منذ تلك اللحظة، طريقا في الحياة، ثم ما أن أتم عباراته حتى نهض مغادرا، وهو يقول لأمه: "أي أم، إن احتجت لي في أمر، فحسبك أن تستدعيني بخاطرك، فأمثل أمامك في التو واللحظة!".

وعرف هذا الفتى منذ ذلك الحين باسم دوايبايانا، أي مولود الجزيرة، ونشأ على الفضيلة حتى تردد صدى اسمه عبر العصور، ثم قام على جمع الأسفار المقدسة لتفيد منها الإنسانية كلما داهمتها داهمة كحالها في كل عصر، وعرف لذلك باسم فياسا، أي جامع الأسفار.