25 يونيو 2008

المـوسـيـقـــى

حين تستمع إلى مقطوعة موسيقية لا يتجاوز عمرها الدقائق المعدودات وتحلق معها إلى عالم تصنعه أنت في خيالك.. ألا تتمنى أن يتحقق هذا العالم ويصبح هو الواقع بتفاصيله التي رسمتها وصنعتها في مخيلتك

فمن المؤكد أنك ترسم لوحات خاصة من النجوم والكواكب، وتزرع حديقة مليئة بالأزهار والأشجار، بل ربما تخلق مدينة فاضلة تضع قوانينها وشرائعها وفق معاييرك واهتماماتك ورؤيتك إلى هذه الحياة..وكل ذلك بسبب الدقائق القليلة التي عشتها وتعايشت فيها مع الموسيقى..ولا يهم أن تكون هذه الموسيقى هندية أو عربية أو أوروبية أو قديمة أو حديثة أو من عصور مختلفة، لأن الموسيقى هي الموسيقى، وكما يقولون أنها اللغة العالمية للبشر التي لا تقيدها قيود ولا تحدها حدود

ولكن بعد أن تعود من عالم السكر إلى عالم الواقع..هل تتساءل عن المعاناة والصراع والنضال الموسيقي الذي عانى منه الموسيقيون على مدى قرون طويلة لكي يحققوا لك أنت أيها المستمع والمتذوق هذه المتعة وهذا العالم الذي تصنعه أنت في خيالك؟

فهذه الموسيقى التي تستمع إليها اليوم، لم تصل إلى ما وصلت إليه لولا نضال الموسيقيين (حتى الموسيقيين كانوا يناضلون) وصراعهم المستمر ضد مؤسسات عدة لكي تتحرر الموسيقى من قبضة المعتقدات المقيدة سواء السياسية أو الفكرية أو الدينية
نعم كانت الموسيقى مقيدة فكريا ودينيا وسياسيا.. وأول من قيّد الموسيقى هو أفلاطون وفيثاغورث في العصر اليوناني..فأفلاطون ينادي بأن تكون الموسيقى أخلاقية وتعلم القوة والشجاعة لا أن تكون موسيقى للترف والتخنيث.. بينما يقول فيثاغورث أن الموسيقى يجب أن تحاكي حركة الأجرام السماوية والانسجام بينها..فهذان الفيلسوفان يريان أن الموسيقى يجب أن تكون بهدف عام لا أن تعبر عن حالة الفنان وإحساسه وشعوره

لم تتوقف معاناة الموسيقيين بعد هذه الآراء بل دخلت مرحلة أخرى من الصراع وهو الصراع الديني، فقد تمسكت الكنيسة بآراء أفلاطون الأخلاقية وضرورة أن تُسخر الموسيقى لخدمة الرب وكلام الرب، بل أنهم رفضوا أي لحن يضعف من كلام الرب، وتشددوا في هذا التوجه حتى أنهم كانوا يحاربون أي موسيقي لا يلتزم باللحن اللاهوتي.. فالموسيقى عندهم يجب أن تكون رزينة جادة خالية من أي ملامح رومانسية حالمة لأنها تفسد المؤمن
وبدأ الباباوات ممارسة القمع على كل موسيقي لا يلتزم النمط الأخلاقي والديني في موسيقاه، حتى أنهم كانوا يتهمون من يخرج عن هذا الخط بالهرطقة والزندقة ووصمهم بالوثنيين
وليس هذا وحسب، بل قام بعض الباباوات مثل غريغور أو غريغوريوس بوضع ألحان وتعاليم موسيقية صارمة يلزم بها كل الموسيقيين الكنسيين وغيرهم أن يتبعوها وإلا أصبحوا هراطقة..لذا تسمى بعض الألحان الكنسية باسم الغريغورية نسبة إلى هذا البابا
وبعد ظهور حركة الإصلاح الديني البروتستانتي التي قادها مارتن لوثر، بدأت الموسيقى تتنفس قليلا بعيدا عن السيطرة الدينية، فقرر أن الموسيقى تخدم العبد الصالح في التأمل والتعبد ولا ضرر من الخروج عن اللحن الكنسي التقليدي بل يجب أن تدخل الموسيقى الشعبية ضمن اللحن الديني حتى يسهل على الإنسان البسيط أن يستوعب كلام الرب
لكن هذا لم يدم طويلا خاصة من بعض أتباع لوثر، فقد تشدد خلفاؤه البروتستانتيين في التعاليم الموسيقية للكنيسة بل نافسوا في تشددهم الكاثوليكيين
إذن، حتى هذا العهد عانت الموسيقى من قيدين كبيرين القيد الأخلاقي الذي فرضه أفلاطون، والقيد الديني الذي فرضته الكنيسة..فأثناء تلك الفترة لم يكن للمؤلف الموسيقي الحق في التعبير عن نفسه ومشاعره بل عليه أن يلتزم هذين القيدين
وعلى فكرة، كثيرٌ من الفلاسفة تبنوا وجهة نظر أفلاطون الأخلاقية في الموسيقى، فكانوا يشددون على أن تركز الموسيقى على الجوانب الأخلاقية، مما جعلهم يرفضون أي تجديد أو تطوير على الموسيقى، فقد كانوا يستخفون من كل شي جديد ويتمسكون بالموسيقى التقليدية
واستمر الفلاسفة على هذا المنوال حتى جاء الفيلسوف الألماني شبنهاور الذي مال نحو الموسيقيين بأن يعبروا عن مشاعرهم الخاصة بعيدا عن السيطرة الدينية والأخلاقية إذ اعتبر أن الموسيقى هي تفاعل ذوقي وحسي وخيالي وفكري وعلاقة بين الفنان والمتلقي..وهذا الرأي تبناه أيضا فيما بعد الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
وبعدها بدأت موجة التجديد الموسيقي تظهر على الساحة ولاسيما موسيقى الرومانسيين الذين قلبوا المفاهيم التقليدية في الموسيقى، وهذا سبب تميز الموسيقيين الألمان في تلك الفترة

وبعد أن بدأت الموسيقى بالتحرر من قيد الدين والأخلاق برز قيدٌ جديد مرتديا ثياب السياسة، إذ برز هذا القيد السياسي في الأنظمة الشمولية التي كانت تطالب الموسيقيين والفنانين بشكل عام أن يوظفوا إبداعاتهم لخدمة القومية والثورة والمجتمع، أي أن يعبر الفن عن المجتمع لا عن الفرد
وخير مثال على هذا النموذج، الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية في عهد هتلر فقد كانوا يحاربون أي صورة أو قالب فني لا يخدم المبادئ الوطنية وفق منظورهم
إلا أن وجود دول تسعى إلى تحرير الإنسان من أي نوع من أنواع الاستعباد الديني أو السياسي أو حتى الأخلاقي الكلاسيكي أدى إلى لجوء كثير من الموسيقيين والفنانين عموما إليهم فظهر إبداع هؤلاء الفنانين وتطورت جميع الفنون بظهور مدارس مختلفة للتعبير عن المشاعر والإحساس.. فالإبداع الإنساني لا يمكن أن يظهر من دون حرية حقيقية

والآن ماذا يقول المفكرون والفلاسفة والموسيقيون عن الموسيقى..يقولون
إن كل موسيقى هي ما يستيقظ فيك عندما تذكرك الآلات الموسيقية..
وهنا لا تكون الموسيقى لغة ًعالمية، ولا تكون ميتافيزيقا، ولا فنا ينشأ من قوالب أولية إنما نحن الذين نضفي على الموسيقى وجودها


ويقولون أيضا
الموسيقى ليست محاكاة لانسجام الأفلاك وصوت حركة الأجسام كما قال فيثاغورث..والموسيقى ليست تعبيرا عن الأخلاقية واللا أخلاقية أو أن تكون خيرا أو شرا بالمعنى الأخلاقي كما قال أفلاطون.. والموسيقى لا يمكن أن تكون في ذاتها سياسية أو دينية لخدمة العبادات الدينية أو لخدمة السياسية كما يقول اللاهوتيون وأصحاب السياسات الدكتاتورية..والموسيقى ليست رياضة فحسب وعلم دقيق يقوم على المنطق بلا مشاعر كما يقول الفلاسفة.. والموسيقى ليست محاكاة للطبيعة والأصوات الكامنة فيها كما يقول الطبيعيون

إذن..فالموسيقى تبدأ بالمؤلف الذي ينقل أفكاره وأحاسيسه عن طريق العازف أو الفرقة الموسيقية إلى المستمع، والمستمع يفهم ويؤوّل الموسيقى حسب شعوره وثقافته وإحساسه

ومن كل ما تقدم أيها المستمع والمتذوق، ماذا تمثل الموسيقى لك، وكيف تستطيع تقييم ما تسمعه من أنغام وألحان حين تستمع إلى قطعة موسيقية تنقلك من عالم إلى آخر؟
وبمعنى آخر.. أين تضع نفسك من بين المتذوقين للموسيقى، أو كيف تصنف نفسك موسيقيا
فهل أنت مستمع عادي (بسيط) للموسيقى الذي يقول "أحب ما أحب ولا أعبأ بمعرفة السبب".. أي الاكتفاء باللذة الحسية من الموسيقى دون معرفة السبب
أم أنت متذوق أكثر ثقافة بحيث تستشعر الإحساس الغامض بالمتعة الذي تتيحه الموسيقى، وتبحث عن سبب هذه اللذة، وأن تحاول بتفكيرك بعد أن تنتهي القطعة الموسيقية أن تفهم سبب إحساسك بالاستمتاع واللذة وأن تعرف السر الكامن في هذه الموسيقى التي نقلتك من حالة إلى حالة أخرى

هل تحتاج إلى معايير لتقييم استماعك بالموسيقى؟
لا توجد معايير محددة، فأنت من يحدد هذه المعايير، فقط تحتاج إلى أذنٍ تصغي جيدا، وقلب مرهف شاعر، وعقل يدرك معاني الأنغام والألحان.. إذن.. حس يتلقى الموسيقى، ومشاعر تترجمها إلى انفعالات، وأخيرا عقل يتفكر بهذه الموسيقى

------------------------

بودي أن أتكلم عن الموسيقى في الدولة الإسلامية (ما حبيت أسميها موسيقى عربية إسلامية) لكنها للأسف لم تشهد تطورا منذ الفيلسوف الفارابي حتى سيد درويش، وسأكتفي بنقل هذا المشهد للفارابي
ذكروا: أن الفارابي اخترع آلة جديدة (يقال أنها القانون) فدخل على قوم فعزف لهم لحنا أضحكهم، ثم عزف لهم لحنا أبكاهم، ثم عزف لهم لحنا ناموا بعده، فخرج الفارابي وتركهم نائمين

كم تمنيت أن تكون هذه المقطوعات التي عزفها الفارابي موجودة في أيامنا الآن.. أليس شيئا مغريا أن نتعرف ونسمع تلك الأنغام التي أضحكت وأبكت ونوّمت؟

لعدم الإطالة أكثر، أذكر بعضا مما قاله إخوان الصفا وخلان الوفا في الموسيقى

فإذا استوت هذه الأوتار على هذه النسب الفاصلة وحُركت حركات متواترة متناسبة حدث عن ذلك منها نغمات وصارت النغمات الغليظات الثقال للنغمات الحادات الخفاف كالأجساد وهي كالأرواح، واتحد بعضها ببعض وامتزجت وصارت ألحانا وغناءً. كانت بمنزلة نقرات تلك الأوتار عند ذلك بمنزلة الأقلام، والنغمات الحادات بمنزلة الحروف، والألحان بمنزلة الكلمات، والغناء بمنزلة الأقاويل، والهواء بمنزلة القراطيس، والمعاني المتضمنة في تلك النغمات والألحان بمنزلة الأرواح المستودعة في الأجساد. فإذا وصلت المعاني المتضمنة في تلك النغمات والألحان إلى المسامع، استلذت بها الطباع وفرحت بها الأرواح وسُرّت بها النفوس

----------

أمنية: ودي اسمع مقطوعات الموسيقار سيرجي رحمانينوف (اللي هاجر من روسيا إلى أمريكا هربا من القمع السوفييتي) أسمعها وأنا قاعد في بلكونة من الطابق الحادي والعشرين وتطل على البحر مع كأس نبيذ بوردو مو مهم معتق أو مو معتق.. و و

لا لا لا هونت هونت .. هذا يعتبر ظاهرة سلبية دخيلة
واحتمال يحذفوني من فوق