نواصل اليوم حوار النعمان بن المنذر ملك العرب وكسرى ملك الفرس، والذي أورده الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وقد انتهى الحوار عند ذكر النعمان للصفات الحسنة وللخصال الخيّرة عند العرب... ويقول:
وأما حكمة ألسنتها: فإن الله تعالى أعطاهم أشعارا، ورونق كاملا، وحسن وزنه وقوافيه، مع معرفتهم بالإشارة وضربهم الأمثال، وبلاغتهم في الصفات ما ليس من ألسنة الأجناس.
ثم إن خيولهم أفضل الخيول، ونساءهم أهف النساء، ولباسهم أحسن اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وأحجار جبالهم الجزع، ومطاياهم التي لا يبلغ إلا على مثلها سفر، ولا يقطع إلا بمثلها بلد قفر.
وأما دينها وشريعتها: فإنهم متمسكون به أعظم تمسك، وإن لهم أشهرا حرما، وبلدا محرما، وبيتا محجوجا، ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل فيه قاتل أبيه وأخيه، وهو قادر على أخذ ثأره منه وإدراك رغمه فيه، فيحجزه كرما، ويمنعه دينه عن تناوله إياه، احتراما لذلك البيت وتشريفا له.
وأما وفاؤهم: فإن أحدهم يلحظ اللحظة، فهي عقد لأهلها، لا يرجع عما أضمره في نفسه حتى يبلغه، وأحدهم يرفع عودا من الأرض، فيكون رهنا بدينه فلا يطلق رهنه ولا يخفر ذمته، خوفا من الله تعالى، وإن أحدهم يبلغه أن أحدهم استجار به وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيمنع عنه عدوه، ويحميه منه ولو تفنى قبيلته، أو تلك القبيلة التي استجار عليها، وذلك لما أخفر من جواره، وإن أحدهم ليلجأ إليه المحروم، والمحدث عنه، بغير معرفة ولا قرابة فينزلونه عندهم، وتكون أنفسهم وأموالهم دون ماله.
وأما قولك أيها الملك، حفظك الله: إنهم يقتلون أولادهم من الحاجة فإنما يفعله من فعله منهم رغم أنفه حذرا من العار، وخيفة وغيرة من الأزواج.
وأما قولك أيها الملك: إن أفضل طعام ظفروا به لحوم الإبل على ما وصفت منها فما تركوا ما دونها إلا احتقارا له، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم ومطاعمهم، من أنها أكثر البهائم لحوما، وأطيبها شحوما، وأرقها ألبانا، وأقلها غائلة، وأحلاها مضغة، وإنه لا شيء من اللحوم يفاخر لحمها إلا استبان فضلها عليه.
وأما محاربتهم وأكلهم بعضهم بعضا، وتركهم الانقياد إلى رجل واحد يسوسهم ويدبر أمورهم، فإنما يفعل ذلك من الأمم من علمت الضعف أنفسها، وتخوفت من نهوض عدوها عليها، فإنهم يحتاجون إلى ملك، يدبر أمرهم، ويكون رجلا من أعظمهم شأنا وقدرا، ويكونون معترفين بشرفه على سائرهم فينقادون إليه بأزمتهم، وينقادون إلى أمره.
وأما العرب: أيها الملك، فإن كثيرا فيهم، لعظم كرمهم ووقارهم، ودينهم وحكمة ألسنتهم، وسخاء نفوسهم يقولون: إنهم ملوك بأجمعهم مع رفعتهم، فلا ينقاد أحد إلى الآخر فإنهم أشراف.
وأما اليمن، التي وصفها الملك، فإن آباءك وأجدادك أعلم بصاحبها لما أتاه ملك الحبشة في مائتي ألف، وتغلب على ملكه وجاء إلى بابك وهو مستصرخ ذليل حقير مسلوب فلم يجره أحد من أجدادك وآبائك، فاستجار بالعرب فأجاروه، ولولا ما وتر به من بلية العرب لمال إلى نقص، ولم يرجع إلى محله، ولولا أنه وجد من يجيد معه الطعان بقيل الأحرار، وتبدد شمل الكفار، ويذبح العبد الأشرار لم يرجع إلى اليمن.
قال فعجب كسرى مما جاء به النعمان، ثم قال له: إنك لأهل موضعك من الرياسة ولأهلك ولأهل إقليمك، ولما هو أفضل منه ثم كساه وأنعم عليه وأعطاه أشياء جزيلة ثم سيره إلى موضعه من الحيرة، ثم بعد سير إليه وقتله.
والتنوخية فرقة من اليمن، وقال المتنبي على لسان بعضهم:
قــضــاعة تــــعـلم أني الــفــــتى الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذي ادخرت لصروف الزمان
ومــجدي يـدل على بني خـنـذف عـــلــــى أن كــــــل كــــــــريــــــــم يـــــــــمـــــــــانأنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء أنا ابن الضراب أنا ابن الطعان
أنا ابن الفيافي أنا ابن القوافي أنا ابن السروج أنا ابن الرعان
طـويـــل الــنـــجاد طـويــل الــعمـاد طـــويــــل الــقــنــاة طـــويـــل الــســنــان
حديد اللحاظ حديد الحفاظ حديد الحسام حديد الجنان
يــســـابــــق ســيـــفــي مــنــايـــا الــعــبــاد إلـــيـــــهـــم كـــــــأنـــــــهــــــم فــــــــي رهــــــــــــان
يـــرى حـــده غــامــضــات القــلوب إذا كـــــنــــــت فـــي هــــــبـــــوة لا أراني
سـنـجــعــلــه حــكــمــا في الـــنــفوس ولو نــــــــاب عــنــه لــســاني كــفـــاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق