إيش تشرب يا عنتر..عندنا اليوم من الأصفر والأحمر والأقحواني والأرجواني..والمودمــاني
يحكي لنا المسعودي في كتابه مروج الذهب عن قصة أول من شرب الخمر وكان في عهد الملكين السريانيين أزور وخلنجاس
وقبل المضي في سرد هذه القصة، لابد من أن نعرج على سيرة ملوك السريانيين الذين حكموا الأرض بعد الطوفان حسب قول المسعودي
ذكر أهل العناية بأخبار ملوك العالم أن أول الملوك ملوك السريانيين بعد الطوفان، وكان أول ملك منهم يقال له إشوسان، وكان أول من وضع التاج على رأسه في تاريخ السريانيين وانقادت له ملوك الأرض، ثم ملك ولد له يقال له بربر، ثم ملك سماسير بن أوت سبع سنين، ثم ملك بعده هريمون عشر سنين (..) وملك بعده أهريمون، ثم هوريا ثم ملك بعده ماروب، ثم ملك بعده أزور وخلنجاس، ويقال إنهما كانا أخوين، فأحسنا السيرة وتعاضدا على الملك
وتبدأ حكاية المودماني
يقال: إن أحد هذين الملكين كان جالسا ذات يوم إذ نظر في أعلى قصره إلى طائر قد أفرخ هناك، وإذا هو يضرب بجناحيه ويصيح، فتأمل الملك ذلك فنظر إلى حية تنساب إلى الوكر صاعدة لأكل فراخ الطائر، فدعا الملك بقوس فرمى به الحية فصرعها، وسلمت فراخ الطائر، فجاء الطائر بعد هنيهة يصفق بجناحيه وفي منقاره حبة وفي مخاليبه حبتان، وجاء إلى الملك وألقى ما كان في منقاره ومخاليبه، والملك يرمقه، فوقع الحب بين يدي الملك
وقال: لأمر ما ألقى هذا الطائر ما ألقى، لا شك أنه أراد مكافأتنا على فعلنا به، فأخذ الحب وجعل يتأمله فلم يعرف مثله في إقليمه
فقال جليس من جلسائه حكيم وقد نظر إلى حيرة الملك في الحب: أيها الملك، ينبغي أن يودع لنبات أرحام الأرض فإنها تخرج كـُنـْهَ ما فيه، فنقف على الغاية منه
وأمرهم بزرع الحب ومراعاته، وما يكون منه، فزرع، فنبت وأقبل يلتف بالشجر ثم حصرم وأعنب، وهم يرمقونه، والملك يراعيه، إلى أن انتهى في البلوغ وهم لا يقدمون على ذوقه خوفا أن يكون متلفا
فأمر الملك بعصر مائه، وأن يودع في أواني، وإفراد حبٍّ منه وتركه على حالته، فلما صار في الآنية عصيرا هَدَرَ وقذف بالزبد وفاحت له روائح عبقة، فقال الملك: عليَ بشيخ كبير فان فأتي به، فلدد له (مدّ له) من ذلك في إناء فرآه لونا عجيبا، ومنظرا كاملا، ولونا ياقوتيا أحمر، وشعاعا نيرا
وإنها لسكرة حتى مطلع النصر
مع الاعتذار الشديد للمدونة
9ahba'a
عن سرقة مقولتها مع بعض التحريف
ثم سقوا الشيخ فما شرب ثلاثا حتى مال، وأرخى من مآزره الفضول وصفق بيديه وحرك رأسه، ووقع برجليه على الأرض، فطرب، ورفع عقيرته يتغنـَّى
فقال الملك: هذا شراب يذهب بالعقل، وأخاف أن يكون قاتلا، ألا ترى إلى الشيخ كيفما عاد في حال الصبا وسلطان الدم وقوة الشباب
ثم أمر الملك به فزيد، فسكر الشيخ، فنام
فقال الملك: هلك
ثم إن الشيخ أفاق وطلب الزيادة من الشراب
وقال: لقد شربته فكشف عني الغموم، وأزال عن ساحتي الأحزان والهموم، وما أراد الطائر إلا مكافأتكم بهذا الشراب الشريف
فقال الملك: هذا أشرف شراب أهل الأرض
ولما أعجبه هذا الشراب
أمر الملك أن يكثر من غرْس الكرْم، فكثر الغرس للكرم، وأمر أن يمنع العامة من ذلك
وقال: هذا شراب الملوك، وأنا السبب فيه، فلا يشرب غيري، فاستعمله الملك بقية أيامه، ثم نما في أيدي الناس واستعملوه، وقد قيل: إن نوحا أول من زرعها، وقد ذكرنا الخبر حين سرقها إبليس منه حين خرج من السفينة واستولى على الجودي في كتاب المبدأ وغيره من الكتب
طبعا، يسأل سائل لماذا الكتابة عن الخمر، والإجابة في شقين
الأول من باب المعرفة والمزايا والثاني بسبب اقتراب احتفالات رأس السنة الجديدة، وما بلغه سعر المودماني من الغلاء الفاحش حتى صار فحشُ غلائه أفحشَ من فحش ِ شرابه
وسنتنادم مع بعض الندماء وما ذكروه في أشعارهم وأدبياتهم، حيث حظي المودماني بمكانة في الأدب والشعر، ونبدأ بأبي نواس إذ قال
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء...وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها...لو مسها حجر مسته سراء
من كف ذات حر في زيّ ذي ذكر...لها محبان لوطي وزنـّاء
قامت بإبريقها واللـيل معتكـر...فلاح من وجهها في البيت لألاء
فأرسلت من فم الإبريق صافية... كأنما أخذها بالعين إغفاء
وقال أيضا
لا تمكنـّني من العربيدِ يشربني...ولا اللئيمِ الذي إن شمني قـَطبَا
ولا المجوس ِ فإن النارَ ربُّـهُمُ ...ولا اليهودِ ولا من يعبدُ الصُلـُبا
ولا السِّـفالِ الذي لا يستفيقُ ولا...غِرِّ الشبابِ ولا من يجهلُ الأدبَ
ولا الأراذل ِ إلا مـن يوقـرني...من السقـاةِ لكن اسقني العربـا
يا قهوة ًحُرمت إلا على رجـل ٍ...أثرى، فأتلف فيها المال والنشبَ
العُرُب: فجمع عَروب، وهي المرأة الحسناء المتحببة إلى زوجها، وقيل العُرُب الغنجات، وقيل المغتلمات، وقيل العواشق، وقيل هي الشكِلات، بلغة أهل مكة، والمغنوجات بلغة أهل المدينة
ويقال أيضا عَرِب الرجل إذا غرق في الدنيا
من لسان العرب
وقال أيضا
ما مرّ يومٌ وليس عنـدي...من طـُرَفِ اللهوِ خَصلتان
كأسُ رحيق ٍ، ووجهُ ظبي ٍ...تظِـلُّ في حسنـِهِ المعاني
نلتُ لذيـذ َالحرام ِ منـه،...ونالـهُ النـاسُ بالأمانـي
كم لذةٍ قلـت قـد وعاهـا...فـي وسط اللـوح حافظان
أما المهلهل بن ربيعة (الزير) فقال
دعيني فما في اليوم مصحى لشارب..ولا في غد، ما أقرب اليوم من غد
دعيني فإني في سماديـر سكـرة.. بها جلَّ همي واستـبان تجلـدي
السمادير هو الشيء الذي يتراءى للإنسان من ضعف بصره عند السكر من الشراب وغشي النعاس والدوار
من لسان العرب
أما ابن أخته امرؤ القيس فيقول قولته الشهيرة حين جاءه نفر من قومه يبلغون إليه نبأ مقتل أبيه وتحمليه الأخذ بالثأر وكان حينها في الحان يعب من الخمر عبّا فقال
ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا
لا صحو اليوم ولا سكر غدا
اليوم خمر وغدا أمر
يعني بما معناه قال لهم: خلوني مع سكرتي الحين وباجر يصير خير
ويقول الأديب الصوفي حافظ الشيرازي
وشارب الخمر الذي لا رياء فيه ولا نفاق
خير من بائع الزهد الذي يكون فيه الرياء وضعف الأخلاق
ولربما نتجاوز عن فروض الله، ولكنا لا نفعل السوء بأحد من العباد
فإذا قالوا: ليس هذا صوابا. قلنا: هذا هو عين الصواب، ومحض الإسعاد
ومن خمريات المتصوفين يقول عمر الخيام في رباعياته عن ترجمة لأحمد رامي
سمعت صوتا هاتفا في السحر..نادى من الحان ِ: غفاة البشر
هبوا املأوا كأس الطلا قبل أن..تفعم كأسَ العمر كفُّ القدر
أفق خفيف الظل هذا السحر..وهاتها صرفا وناغ الوتر
فما أطـال النوم عمرا ولا..قصر بالأعمار طول السهر
اشرب فمثواك التراب المهيل..بلا حبيب مؤنس أو خليل
وانشق عبير العيش في فجره..فليس يزهو الورد بعد الذبول
عاشر من الناس كبار العقول..وجانب الجهال أهل الفضول
واشرب نقيع السم من عاقـل..واسكب على الأرض دواء الجهول
يا تارك الخمر لماذا تلوم..دعني إلى ربي الغفور الرحيم
ولا تفاخرني بهجر الطلا..فأنت جان ٍ في سواها أثيم
فلا تتب عن حسو هذا الشراب..فإنما تندم بعد المتاب
وكيف تصـحو وطيـور الربا..صداحة والروض غض الجناب
زخارف الدنيا أساس الألم..وطالب الدنيا نديم الندم
فكن خلي البال من أمرها..فكل ما فيها شقاء وهم
ولا ننسى أحمد شوقي حين قال
رمضان ولّى هاتها يا ساقي.. مشتاقة تسعى إلى مشتاق
ما كان أكثره على ألافها .. وأقله في طاعة الخلاق
بالأمس قد كنا سجيني طاعة واليوم من العيد بالإطلاق
ضحكت إلي من السرور ولم تزل بنت الكروم كريمة الأعراق
وفي الكويت منح ثاقبُ البصيرة الشاعر فهد العسكر المُدامَ مقاما في البوح إذ قال
صهرت في قدح الصهباء أحزاني.. وصغت من ذوبها شعري وألحاني
وبت في غلس الظلماء أرسلها .. من غور روحي ومن أعماق وجداني
وقال أيضا
اذكريني كلما هب الندامـى...لتحسيها غبوقا وصبوح
وإذا ما هزت الذكرى الحماما...فغدا في الدوح يشدو وينوح
اذكريني كلما نام السكـارى...بين أحضان الرمال الناعمة
وإذا ما سامر الموج السهارى...حول هاتيك الصخور الجاثمة
وقال أيضا
هات يا ساق ِ هات بنت النخيل ِ...فعساها تشفي عساها غليلي
هات كأسي فيم التردد واشرب... فهي حسبي في محنتي ووكيلي
.............................................................
جاء تحريمها وليـس علينـا... بل على كـل سافل وجهـول
وقال أيضا
بك بالشوق، بالضنى يا جارة ...أسعفيني بالكأس والسيجارة
يا ابنة الجار أرمَضَ الصحو قلبي..وشجا خاطري وشق المرارة
أخرجيني من الظلام إلى النور وفرضٌ أن يسعف الجار جاره
يا عروس الأحلام بالله هاتي...وخذي. ولنفض هذي البكارة
وأبدع قائلا
أترعي الأقداح يا حوّا ... فإن الليل عسعس
وينـمُّ الوردُ إن شاء ... إذا الصبح تنفس
وأديري الكأس بالله... فما أعطش قلبي
فابنة العنقود تـُحيي...كل ميت إي وربي
أما الشاعر المرحوم خالد سعود الزيد فمزجها بالشعر قائلا
هاتِ الشَّمولَ وقرّب الأقداحا
فالشعرُ هبَّ من الرُبى فواحا
واملأ كؤوسي من عصارة خاطري
فلقد سكبتُ من الحشاشةِ راحا
ومزجها بشفتي الحبيبة وقال
اسقنيها خمرة ً من شفتيها
أنا لا أدري سوى أني لديها
عبدُ رقٍّ فاسألوها
حينما لامسَ فوها
فاه قلبي
فاستوى بين يديها
لكن أجمل صورة شعرية قرأتها هي قصيدة حبب للزيد إذ يصف تلك الفقاعات المتشابكة والمتصاعدة من قعر الكأس، وتقول أبيات هذه القصيدة الجميلة
حببٌ قد ساقـَهُ حببُ .. ما به أينٌ ولا تعبُ
واثبٌ والكأسُ تحضنه .. وبه من قاعها لهبُ
يتعالـى وهو منحدرٌ .. وهو منسابٌ ومنسكبُ
فكأن الأرضَ ثائـرة ٌ .. فهي من أعماقها تثبُ
وكأن الكأسَ متـرعة ٌ .. قد غزت أجواءها الشهبُ
يتـنزّى مثـل ذي ألم .. جرحَتْ أعماقـَهُ النـُّوَبُ
ويـوالـي دفع أولـِهِ .. آخرٌ في القاع ِ يلتهـِبُ
وهو روحُ الخمرِ إن سُكبتْ .. فله في صنعِها عجبُ
ما أرى الصهباءَ مغريتي .. لو يجافي كأسَها الحببُ
وكثير من الشعراء تغنوا وأبدعوا بالخمريات، ومن الأبيات الجميلة التي لها مكانة خاصة في مزاجي وقلبي للشاعر مظفر النواب في قوله
اسقنيها وفدى خفيك من يشرب خمرا
وهو لا يعرف للخمر مقاما
وللمزيد هذا نص قديم.. ألا تريد أن تسكر
http://sologa-bologa.blogspot.com/2006/11/1-2.html#links
وفي الختام
حدثنا يحيى بن يحيى، قال قرأتُ على مالك عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة، قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام
البتع هو شراب العسل وأعتقد بأنه الدبس
والسؤال هنا.. إذا كان كل شراب أسكر فهو حرام، وإذا كان كل شراب كثيره يسكر فقليله حرام
ما هو حكم شرب اللبن الخاثر؟
وأخيرا.. بالذمة بالذمة أيهما أكثر فائدة
الكتابة عن المودماني أم استجواب وزيرة التربية؟